-
بقلم / أ.د. غازي بن غزاي العارضي
-
جميع مقالات الكاتب
-
توعوي
من طبائع البشر المتصلة بحيواتهم، النزق والتحامل على منافسيهم أو ممن يشعرون أنهم يهددون مصالحهم، وقد يأخذ ذلك الحقد مساراً متأصلاً ذا أبعاد عنصرية متوارثة وحزبية وايديولوجية مقيتة، لاسيما تجاه الأفراد، والمجتمعات والأمم الاخرى المتميزين بالخصال الحميدة، وكانت العرب قبل الإسلام يعيشون حياة تمور بالبؤس والشقاء وتتسم بالمعاناة الشديدة إلا قلة نادرة من حواضرها، مثل مكة والمدينة وبعض واحات وأودية النخيل هنا وهناك، مما يسد الرمق ولا يتجاوز الحد إلى الرفاهية وحسن الرياش والبذخ العريض، حيث أن طبيعة الجزيرة العربية واجوائها القاسية ألقت بظلالها المعتمة والبائسة على مسار حياتهم، ولم يعد هناك ما يثير الانتباه والاهتمام بهم سوى أنهم يتقاسمون الولاء لإمارتين هما الغساسنة التابعة للروم، والمناذرة اتباع الفرس، بينما الأمم الأخرى لا تأبه بذكرهم، لكن ثمة ما قلب المعادلة برمتها رأساً على عقب، وفاجئ العالم كله، وغيِّر بوصلة مجرى أحداث التاريخ نحو الصحراء الجادبة الجرداء، التي كانت على هامش التاريخ حقباً من الزمن، فقد التفت العالم مبهوراً إلى بزوغ شمس الإسلام وهي تسطع على العالم بالعقيدة القويمة، والاخلاق الرفيعة، والتشريعات العادلة، وغدا رعاة الشاة والبعير، يسيطرون على أكبر دولتين في العالم آنذاك وهما: (فارس والروم) بحواضرهما وممالكهما وأقاليمهما، لتنضم الاولى تلو الأخرى إلى أملاك الدولة الاسلامية الجديدة المترامية الأطراف، التي يقودها عرب الصحراء بكل كفاءة وحنكة وقوة واقتدار، بسلوك الزهد، وقوة الإيمان، وشفافية الإنصاف والعدل، وبنور القرآن وهدي سيد ولد عدنان عليه الصلاة والسلام، وتهاوت ممالك الأباطرة وعروشهم تحت سنابك خيول العرب الفاتحين.
كل هذه الأحداث العظام، أحدثت ردود فعل غائرة وعميقة، بين من فقدوا امتيازاتهم وهيمنتهم واستغلالهم لشعوبهم، فعقدوا عزمهم على الانتقام من العرب، وزحزحتهم عن أمجادهم الإيمانية وإسقاط دولتهم، ولم يكن ثمة سلاح أمضى تجاه الفاتحين، يومئذ سوى انتحال الحيلة وفتل غارب المكر والخديعة، وتولى كبر هذه الدعوة نخب المجتمع من الشعراء والكتاب والأدباء والفلاسفة المنافقين، فعملوا على التشنيع على العرب والحط منهم والغمز في كفاءتهم، تمحلاً للطعن في دينهم، فظهرت الشعوبية القبيحة دعوة سيّارة ونحلة يعتنقها بعض أبناء البلاد المفتوحة، تعلن بغض العرب وكراهيتهم والقدح فيهم وإلصاق كل سُبة منكرة بهم، وتعد الباطنية بنحلها ودولها ومدارسها وأدباءها وشعرائها أبرز دعاة الشعوبية وحواضنها عبر التاريخ.
وبنهاية عصر الملوك الأقوياء سنة 232هـ تنحى العرب عن القيادة، وغدا اللهف وراء الترف والمجون والتعلق بزخارف الدنيا ومتاعها، يسيطر على بعض النخب العربية، فبنوا القصور الخرافية، واتخذوا القينات الحسناوات من سبايا الأمم، وركنوا إلى الاغاني والمجون والعب من الشهوات الآثمة، وأحيوا العصبيات الجاهلية بإغداق العطايا والجوائز على شعراء النقائض والفخر القبلي التائه، ولم يبق لملك بني العباس سوى الأسم، والذي بقي صورياً، تُعلن له البيعة والدعاء على المنابر، من أجل اكتساب الشرعية السياسية لأقوى دولة تظهر هنا أو هناك، تحت مظلة الخلافة العباسية المحنطة.
وفي عام 920هـ حمل السلطان سليم الأول آخر خلفاء بني العباس معه إلى الاستانة بعد احتلاله لمصر الكنانة، وهكذا طُوي تاريخ تلك الدولة نهائياً، ورغم أفول ملك العرب فإن أوار الشعوبية لم يزل حياً يعتمل في النفوس والعقول، لكنه أخذ أشكالاً عدة متباينة، بعوامل مختلفة منها: ظهور القوميات المنافسة قبيل سقوط الدولة العثمانية، وتصدر المستشرقون والمنصرون المشهد تحت حراب المستعمر وقسوته وعتوه الذي حارب بدوره اللغة العربية وعلومها، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم نبي العرب، محاولاً الفصل بين العرب والمسلمين، وتشطير الأمة إلى قوميات متناحرة، وجسَّد الاستعمار البريطاني ذلك في تأسيس الجامعة العربية، إمعاناً في تعميق الفجوة بين العرب والمسلمين سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، والتي فشلت بامتياز في تحقيق الحد الأدنى من تطلعات الشعوب العربية نحو التكامل والوحدة والقوة واسترداد المقدسات والمشاركة بفاعلية في بناء الحضارة الإنسانية ، وزاد الطين بلة الأنظمة العسكرية التي استولت على الحكم في غالب الدول العربية، واعتنقت الاشتركية العمياء، أو الليبرالية العرجاء، أو العلمانية البكماء، فمسخت الهوية ، وانسلخت من الآصالة والعراقة العربية، وأساءت للقومية العربية، فقسَّمت المقسَّم وجزَّءت المجزَّء، واُختزلت الشعوبية أخيراً بعداء سافر وكراهية فجة، تجاه دول الخليج وشعوبه، فنفس بعض العرب قبل غيرهم على إخوانهم في الخليج نعمة اكتشاف النفط، ونقموا على اخوانهم ماآتاهم الله من فضله، ورغم أغداق حكام الخليج بالأموال الهائلة والمساعدات الضخمة على بني عمومتهم، إلا إنها ذهبت الى جيوب الحكام اللصوص وعلى سبيل المثال قُدرت ثروة الهالك علي عبدالله صالح وحده (60 مليار دولار) مما زاد الحنق والكراهية والبغضاء والعداوة لدى السواد الأعظم من العرب ضد إخوانهم الخليجيين، كما كشفت عن ذلك مواقفهم الصادمة بوضوح وجلاء إبان احتلال صدام للكويت، وقد استطاع المشروع الإيراني أن يستغل هذه الفجوات بين العرب، فيتصدى مدافعاً عن قضية العرب الأولى (فلسطين) من خلال مناوراته الإعلامية الكاذبة، وضجيج دعايته الصاخبة، في يوم القدس وفيلق القدس وغيره من الهراء الإعلامي الفارغ، الذي يذر الرماد في العيون، فضلاً عن مد يد العون للمنظمات الفلسطينية واحتوائها بفتات المساعدات، التي لا تبلغ 1٪ مما دفعته دولة خليجية واحدة لفلسطين والفلسطينيين.
واستطاع تجنيد اليسار العربي والقومجية، ولفيف من الليبراليين العرب، وبعض التيارات المحسوبة على الإسلام في صفه ومناصرته، رغم جرائمه الفظيعة ضد الشعوب العربية في العراق وسوريا واليمن والبحرين ولبنان، ومن عجائب المكر الصفوي، اقتداره على ترويض القومية العربية وتهجينها وتجييرها لمصالحه وتجنيدها في محاربة دول الخليج وشعوبه خصوصاً، والإسلام السني عموماً، وبقراءة الأفق السياسي والثقافي والإعلامي المنظور، ليس أمام دول الخليج من بُد سوى ان تعيد حساباتها وتغير استراتيجيتها ورسم سياساتها من جديد، وتتعامل مع الشعوب العربية جنباً إلى جنبٍ مع حكوماتها، وتكون بمثابة بيضة القبان في التعامل مع جميع أطياف التيارات الفكرية والدعوية والثقافية والسياسية في العالم العربي، وتقطع بذلك الطريق على المشروع الإيراني الذي استثمر الخلافات العربية البينية في مشروعه التخريبي العنصري، ووجد وليجة ومدخلاً بينهم، فتأخذ دول الخليج بزمام المبادرة وتزيل - الطفيلي الإيراني من الواجهة -، من خلال احتضان القضية الفلسطينية والفلسطينيين بدون استثناء، وزحزحة الدخيل الإيراني الجرثومي وطرده بسد جميع الثغرات التي ينفد منها إلى فضائنا العربي.
وهذا يتطلب مهارة سياسية مؤطرة ببُعد نظر، وسعة أفق، ورؤية ثاقبة، وإحاطة شمولية، مشفوعة بمبادرات أقتصادية محسوبة بدقة، تلامس مشاعر وحاجة المواطن العربي ووجدانه من الخليج إلى المحيط، مدعومة ببرامج ثقافية وفكرية وإعلامية، منفتحة على الجمهور العربي الواسع غير مقتصرة على النخبة، الذين لم ينجح الخليجيون في احتوائهم واستقطابهم، رغم ما رصدوا لهم من جوائز، واحتفوا بهم في مهرجانات، وخُصوا به من حفاوة وتكريم، ومنح بعضهم الجنسية، ولعل في تلك الاستراتيجية الشُجاعة، ما يغير مزاج أكثر العرب على - المدى المتوسط والبعيد - تجاه إخوانهم الخليجيين، وتصبح بحق الربيع العربي، وليس الخريف العربي المدمر، وحينئذٍ ترتد الدعوة الشعوبية على أعقابها خاسئة حسيرة.
أضف تعليقك...