-
إعداد / د. صديق بن صالح فارسي
-
ثقافي
المتأمل في هذه الآيات الكريمات، يجد أنها تمثل برنامج للدعوة إلى الهداية والصراط المستقيم الذي يحقق للإنسان السعادة والحياة الطيبة الكريمة في الدنيا، والنجاة والفوز في الآخرة بالجنة والنعيم الدائم في دار القرار، فبدأت بحمد الله والسلام على عباده المصطفين الأخيار (قُلِ ٱلۡحَمدُ لِلَّهِ وَسَلَٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصطَفَىٰٓۗ)، ثم بالسؤال التقريري أنه لا شيء خير للعبد من ربّه عز وجل (ءَآللَّهُ خَيرٌ أَمَّا يُشرِكُونَ)، ثم بتعداد البعض من آلاء الله الدالة عليه، ونعمه على خلقه، الظاهرة والباطنة، التي توجب محبته والتقرب إليه، وتوحيده وعبادته على الوجه الذي أمر به وشرع، (أَمَّن خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرضَ) الآية، (أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرضَ قَرَارٗا) الآية، (أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) الآية، (أَمَّن يَهدِيكُم فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحرِ) الآية، (أَمَّن يَبدَؤُاْ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ وَمَن يَرزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرضِ) الآية، وفي نهاية كل آية من الآيات السابقة أعقبها بما يثير في النفس الاعتبار والاهتمام، (أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَل هُم قَومٞ يَعدِلُونَ)، أي يحيدون عن الطريق الصحيح الذي يوصلهم بربّهم تبارك وتعالى (أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَل أَكۡثَرُهُم لَا يَعلَمُونَ)، بسبب جهلهم عن ربّهم بآياته وأسمائه وصفاته، فالعلم يرفع، والجهل يردي، "وليس أخو علم كمن هو جاهل" (أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ)، التفكر في آيات الله عبادة يغفل عنها الكثير من الناس، (أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَٰالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشرِكُونَ)، الشرك: مصيبة عظيمة، كبيرة يدخل العبد النار، ولا يغفره الله وصغيره يحبط الأعمال، ويدب في النفس دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، قد يقع فيه الكثير من الناس، (وَمَا يُؤمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشرِكُونَ)، ثم جاء بالسؤال المعجز للكافرين المكذبين بآيات الله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام وباليوم الآخر، بقوله تعالى:(أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُل هَاتُواْ بُرهَٰنَكُم إِن كُنتُم صَٰدِقِينَ)، فلا حجة ولا برهان من كتاب سبق من الله ولا من عقل يعقل، ولا من منطق سليم، ولا من قول سديد، يدل على وجود إله في السماوات والأرض غير الله تعالى (لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).
كما أنه سبحانه وتعالى اختص نفسه بعلم الغيب، فلا أحد يعلم ما في السماوات والأرض، ولا متى تقوم الساعة، ولا ما تخفي الصدور، ولا غيرها من الأمور الغيبية إلا الله (قُل لَّا يَعلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرضِ ٱلۡغَيبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ) الآية، أما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربّهم، فتخبت له قلوبهم، وأما الذين كفروا فيقولون: (أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبٗا وَءَابَآؤُنَآ أَئِنَّا لَمُخرَجُونَ) الآية، مستنكرين ومكذبين باليوم الآخر، غير معتبرين بما حصل للناس المكذبين والأقوام المجرمين الذين كانوا من قبلهم، فالعاقل من اتعظ بغيره، والجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، والكيس الفطن من عمل لما بعد الموت، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنِم خمسًا قبلَ خمسٍ: حَياتَك قبلَ موتِك، وصِحَّتَك قبلَ سَقَمِك، وفراغَك قبلَ شُغلِك، وشبابَك قبلَ هَرَمِك، وغِناك قبلَ فقرِكَ)، ونظر في سوء عاقبة المجرمين واعتبر ونهى نفسه عن أفعالهم وزجر، (قُل سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُجرِمِينَ)، فإن آمنوا واهتدوا فلأنفسهم يمهدون، ومن تولى وكفر، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، (وَلَا تَحزَن عَلَيهِم وَلَا تَكُن فِي ضَيقٖ مِّمَّا يَمكُرُونَ)، فتراهم يستهزئون، (وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡوَعدُ إِن كُنتُم صَٰدِقِينَ)، وما علموا أن ما يصيبهم من سوء، وما يعتريهم من أمراض وفتن ومحن، وما يحل بهم من ديون وخوف وجوع ونقص وقلة وذلة، إنما هو من وعيد الله للظالمين، (قُل عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعضُ ٱلَّذِي تَستَعجِلُونَ)، وعذاب عاجل للمجرمين، (وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ العَذَابِ الْأَكبَرِ لَعَلَّهُم يَرجِعُونَ)، ومع ذلك فإن فضله سبحانه على عباده غير مقطوع ولا ممنوع، يتبغضون إليه بالمعاصي، ويتحبب إليهم بفضله ونعمه، رغم أن أكثرهم لا يشكرون، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُم لَا يَشكُرُونَ).
بعد ذلك تذكر لنا الآيات حقيقة أنه سبحانه وتعالى يعلم ما تنطوي عليه صدور العباد من خير أو شر، ومن إساءة أو إحسان، وأنه لا يغيب عن علمه شيء في السماء والأرض، وكل ما يحدث إنما هو مكتوب عنده في اللوح المحفوظ، وأن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل ويبيّن لهم الحقّ فيما هم فيه يختصمون عن ذات الله وأنه أي القرآن الكريم، هدى يهتدي به الذين يؤمنون بالله ورحمة أنزلها الله إليهم، فيه نور، وفيه شفاء، وفيه من كل شيء يحتاجونه في أمور حياتهم ومعيشتهم، (مَّا فَرَّطنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم يُحشَرُونَ)، وأنه تعالى هو الذي يقضي بين عباده بحكمه العدل، وحكمته البالغة، فهو العزيز: القوي المنيع الذي لا يُغالب، العليم: بما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأحاط علمه سبحانه وتعالى بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها، دقيقها وجليلها، (إِنَّ رَبَّكَ يَقضِي بَينَهُم بِحُكمِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡعَلِيمُ)، ثم اختتم سبحانه هذه الموعظة البليغة بالأمر لرسوله عليه الصلاة والسلام ولعباده المؤمنين بالتوكل عليه، وأنهم بإيمانهم بالله تعالى وتحقيق إيمانهم بالأعمال الصالحة الموافقة للكتاب والسنة، الخالصة لوجهه الكريم هم بذلك يكونون على الحق الواضح الذي لا ريب أنه يحقق لهم الحياة الطيبة والسعادة في الدنيا والآخرة، وأما العصاة المجرمون المكذبون بآيات الله المنتهكون لحدود الله فلن تجدي معهم موعظة، ولا تنفعهم التذكرة، لأنهم موتى القلوب، عمي البصائر، صماء عقولهم، (فَتَوَكَّل عَلَى ٱللَّهِۖ إِنَّكَ عَلَى ٱلۡحَقِّ ٱلۡمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسمِعُ ٱلۡمَوتَىٰ وَلَا تُسمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّواْ مُدبِرِينَ (80) وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُميِ عَن ضَلَٰلَتِهِم إِن تُسمِعُ إِلَّا مَن يُؤۡمِنُ بِـَٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسلِمُونَ (81)).
أضف تعليقك...