-
بقلم / رغداء بنت أحمد المحمد
-
جميع مقالات الكاتب
-
قصصي
على سفح رابية خضراء يطل عليها منزلنا كان يجلس العم يحيى وينظر إلى الأفق الممتد إلى اللانهاية مطلقاً العنان لخياله ولذكرياته المريرة.
كان يجد في الجلوس على إحدى أطرافها ملاذاً له من جحيم الواقع وموضعاً مؤنساً لذكرياته بعيداً عن البشر؛ كل البشر إلا أنا وعائلتي إذ كان منزلنا هو الوحيد المحاذي لذاك السفح ولذاك العجوز.
تقع بلدتي في أقصى الشمال السوري، في منطقة يميزها تعاقب الألوان مع تعاقب الفصول، يبدأها الأصفر في أشد فصول السنة حرارة ليأتي بعدها البني المتهالك والمبشر بولادة حياة جديدة ولون جديد بعد ولوجه مخاضاً لطيفاً ممزوجاً بقطرات المطر المتهاطلة، ورياح الشمال الباردة مع ندف الثلج الكثيفة؛ لتدخل الطبيعة بعدها في عرسٍ كونيٍ ساحر مطيته زهورٌ بيضاء وحمراءَ وصفراءَ بريةً تغطي أغلب سفوح وسهول المنطقة بالكامل.
بلدتي تعيش الحياة بأبهى صورها وتتمتع بجمال الطبيعة إلى أقصى حد، تتلذذ بألوانها وتتراقص بخيراتها، الكل في بلدتي يعشق تلك الألوان وينغمس في تواترها إلا العم يحيى، فهو يعيش فصلاً واحداً من حياته لا يغيره، منذ أن بصُرتْ عيناي النور، ومنذ أن بث الله في قدماي القدرة على حمل جسدي الهزيل، وأنا أراه يجلس على ذاك السفح ينادي بصوت شجي مكلوم مدمى "حوى.. حوى" يسمع بشجي صوته كل الزهور والنباتات التي تغطي الأفق، ويُطرِب بترتيل الاسم الأنس والجان، يختار توقيت الحزن والألم ملاذاً لخامة صوته الموحدة، يختار توقيت العاشقين ولحظات فقدهم وانقطاع آمالهم، يجلس هناك دائما قبيل المغيب، ويظل يصدح بنفس الاسم حتى تلملم الشمس بقايا أشعتها، ويسدل الليل ستاره وتعلن الوحوش تمردها وخروجها من أوكارها.
كنت صغيرة حينما رأيته أول مرة، كنا أنا وأمي متوجهتين إلى منزل جدتي، أخافني صوته المرتفع الذي راح يملأ السهول صداً متكرراً، قفزتُ باتجاهي أمي وصرخت بها: من هذا يا أمي؟
عجوز مجنون لا تقتربي منه.
وماذا يقول؟
صمتت ولم ترد على سؤالي.
ظل العم يحيى يأتي إلى ذاك السفح سنوات عديدة، ويختار دائما نفس التوقيت، ويجلس في نفس الموضع.
أذكر أني كنت أحيك عنه في مخيلتي قصصاً وإشاعات، كنت أحيانا أتخيله ناسكاً متعبداً ينادي باسم أمنا حواء، وأحياناً أصيغ حوله قصة حب لفتاة جميلة اسمها حواء لم يظفر بالزواج بها، ولكني بعد أن أدركت انسلاخه بروحه عن عالمنا، وبان لي انكساره رق قلبي لحاله؛ فكففت لفترة عنه تخيلاتي، وتوقفت عن صياغة الاشاعات عن نداءاته.
وبعد مدة من الزمن وللمرة الثانية سألت والدتي: من حواء؟
زوجته.
كانت صدمتي كبيرة حينما عرفت ذلك، ولما ينادي باسمها؟
أطرقتْ أمي برأسها للأسفل للحظات، ثم أردفت "الله يرحمها".
رجعت إلى الوراء لوهلة، ولزمت الصمت دون إضافة المزيد من الأسئلة، فقد كان سيناريو العم يحيى واضحاً، وبات سر ألمه مفضوحاً، إنه الشوق، إنه الحنين للزوجة والصديقة والأمان الذي عاشه زمناً، كم عظم العم يحيى وقتها في نظري وكم في لحظتها ترقبت وصوله إلى ذاك السفح حتى أُطرب روحي باستغاثاته واشتياقه ولوعته اللذيذة، كم كان إخلاصه جميلا ووفاءه ساحرا.
لكنه الفضول أرغمني على سؤال:
أيحبها لهذه الدرجة يا أمي؟
ربما الآن ولكنه كان مصدر تعاستها وعذابها حينما كانت حية.
بعد مدة انقطع العم يحيى، ولم أعد أراه، ولم يعد يأتي، ويصدح باسم حواء، وعلمت بعدها أنه توفى، وأنه لحق بزوجته، وما علمته أيضاً بمحض صدفة أنه مات حزناً وألماً على ما فعله بها.
قالوا أنّ زوجته كانت سيدة ضعيفة وطيبة ومسكينة، وقالوا عنه أنه كان يعذبها.
وقالوا أنّه كان يضربها ويهينها حتى أسلمت روحها المنكسرة إلى بارئها، وأنه حينما أيقن برحيلها عنه إلى الأبد، جن جنونه، وفقد عقله، ولم يعد يتكلم ولم يعد ينطق بغير اسمها.
قالوا أنّ الكلمة الوحيدة التي كان يرددها هي "حوى".
حزنت مرتين حينما عرفت كل تلك المعلومات عنه، مرة على تلك السيدة المسكينة التي ماتت قهراً وحزناً، ومرة عليه هو الذي عاش من بعدها قهراً وحزناً، لم تكن نداءاته اشتياقاً! بل كانت اعتذاراً، كانت حرقةً وألماً وندماً.
كانت نداءاته طلباً للغفران.
كانت تكفيراً عن الخذلان.
أضف تعليقك...