-
بقلم / رغداء بنت أحمد المحمد
-
جميع مقالات الكاتب
-
قصصي
على كرسي كبير جدًا في وسط مقهى الحي جلس متربعًا عرشه، غائرًا في اتساعه، ورافعًا رأسه بصعوبة إلى لأعلى، بدا وكأنه الوحيد في المكان وبدت ثقته جلية على محياه، ينظر إلى الجميع نظرات غريبة وكأنه يتعرف على وجوه بشرية لأول مرة، ويحاول حفظ أشكالهم لغاياتٍ في نفسه، راح للمرة الثانية يرفع رأسه بصعوبة ويلوي بشفتيه أعلى وأسفل، وقبضتاه ممسكتان بشدة على أطراف الكرسي.
على ملامحه براءة الدنيا وما عليها، وفي عينيه حياة إثر حياة إثر أخرى، وعلى جفنيه تغفو العصافير وتصحى على رموش كأنها شلال من نور منسدل على عينين واسعتين سوداويتين، وعلى خديه تنتثر الورود وتنشر عبيرها على فقراء الأحاسيس وشحيحي الفرح، تتدحرج الحياة بين خصلات شعره البني، وتتراقص وصولًا إلى كتفين صغيرتين بالكاد تستطيعان حمل رأسه المليء بأحلام مؤجلة وطموحات مجهولة المصير.
بينما كنت أختلس النظر إليه، وقعت عيناي في عيناه، وبعد برهة من محاولاته حفظ الملامح والتعرف على الوجه البشري رقم 20 أو ما يزيد الذين عرفهم في حياته القصيرة حتى الآن، وبعد لحظات من التحديق ابتسمت له ابتسامة ساخرة، فضحك وراح يهز بيديه ويلف برأسه مرحًا ناثرًا شعره البني يمينًا ويسارًا، التفتت والدته باتجاهي وابتسمت تكلفًا، ثم أصلحت من جلسته وأزاحت كرسيه قليلًا، أغلب ظني أنه كان خوفًا من العين.
طوال فترة مكوثي في المقهى، وأنا تارة أتأمل وجهه الملائكي وتارة تتوجه ناظري إلى والدته التي بدت منشغلة الفكر مزيحة برأسها تجاه باب المقهى بين الفينة والأخرى.
بعد قرابة الساعة من حالتي المتلصصة، وحالة الطفل المنذهلة، وحالة الأم المترقبة، وجدتها تلامس بيد واحدة أطراف عينيها، تكفكف بعض الدموع المنهمرة، وترفع بيدها الأخرى طفلها الوحيد، وسَمعت أذناي غصبًا كلماتها المكلومة لولدها "دعنا نرحل، يبدو أن والدك لن يأتي".
مضت الأم تحمل طفلها بيد وخيبتها باليد الأخرى، مضت تحمل أملًا بدا أنها رفعت له رايتها البيضاء، وأعلنت استسلامها، مضت تحمل رؤى ضبابية لمستقبل مجهول لها ولطفلها الرضيع.
وجدتني عفوًا أردد في سري "تبًا له من أب، تبًا له من رب أسرة غير مبال" ورحت أتساءل لما تنجبون البراءة إن كنتم عن حفظها عاجزون، لما تحملون إلى الدنيا عصافير أنتم عن صونها غافلون، ولما للنساء تنكحون وهنَّ لأمانكم وظلكم يفتقرون.
ليست الرجولة بالإنجاب فكل ذكر يستطيع الإنجاب، إنما الرجولة بقدر الرعاية والصون والمسؤولية، بقدر المراعاة والتواجد والمداراة، بقدر الأمان الذي تمنحونه لأسركم وفلذات أكبادكم.
ارفقوا بالقوارير، وارعوا أولادكم، واجعلوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لكم؛ فقد كان خيركم عند الله وخيركم مع أهل بيته وذريته.
أضف تعليقك...