
-
بقلم / د. عبدالحكيم بن محمد المغربي
-
جميع مقالات الكاتب
-
توعوي
إنه لمن العجب أن نقرأ في القرآن الكريم والسنة النبوية قصصًا عن بشر مثلنا، سطّروا مواقفهم وأعمالهم بإيمان يذهل العقول، وخصوصًا في زمننا هذا، الذي انتشرت فيه الفواحش، وقلّ فيه الحياء، وندر فيه احترام الوالدين والشيوخ والعلماء. أصبحنا نرى يوميًا مظاهر الانحدار الأخلاقي في عصر يُدّعى أنه عصر الحضارة والتقدم، لكنه في حقيقته يخلو من القيم الحقيقية التي تجعل الإنسان إنسانًا.
تعالوا، أحبتي في الله، لنستعرض بعض هذه القصص العظيمة التي أخبرنا بها الله في كتابه الكريم، ورسوله محمد ﷺ، لعلنا نتخذ منها العبرة ونتعلم منها كيف يكون الإيمان الحقيقي.
قصة ماشطة ابنة فرعون – الإيمان حتى الموت
كانت امرأة تعمل في قصر فرعون تمشط شعر ابنته، وكانت مؤمنة سرًا بالله الواحد الأحد. وذات يوم، بينما كانت تمشط شعر الأميرة، سقط المشط من يدها، فقالت بلا تفكير: "بسم الله". فالتفتت إليها ابنة فرعون وسألتها بغضب: "أتقصدين أبي؟"
فقالت المرأة بكل ثبات: "لا، بل ربي ورب أبيك، الله الواحد الأحد!"
وصل الخبر إلى فرعون، فاستشاط غضبًا وأمر بإحضارها. وعندما رفضت التراجع عن إيمانها، قرر تعذيبها أمام أعين أبنائها. أحضر قدرًا ضخمًا من النحاس، ملأه بالزيت، ثم أوقد النار تحته حتى غلى الزيت. وأمام عينيها، بدأ بإلقاء أطفالها واحدًا تلو الآخر في الزيت المغلي، لكن قلبها لم يضعف، ولسانها لم يتزلزل، بل بقيت على إيمانها حتى جاء دور أصغر أبنائها، رضيعها الذي كان في حجرها. وهنا كادت الأم أن تتردد للحظة، فأنطق الله طفلها الرضيع، وقال لها: "اصبري يا أمي، فإنكِ على الحق!"
فأكملت طريقها إلى الشهادة، ولقيت ربها ثابتة على إيمانها. أي قوة إيمان هذه! أي صبر وأي يقين بالله! إنها بطولة لا نجدها في زماننا هذا، حيث يخشى الكثيرون حتى من قول الحق، فما بالنا بمن ضحّت بأعز ما تملك في سبيل إيمانها؟
قصة إبراهيم وإسماعيل – الطاعة المطلقة لله
حين رأى نبي الله إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، لم يكن هذا مجرد حلم عابر، بل كان وحيًا من الله. فلما أخبر ابنه بذلك، لم يصرخ إسماعيل، ولم يعترض، ولم يقل: "كيف تذبحني يا أبي؟ هذا جنون!" بل قال في طاعة كاملة:
﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ (الصافات: 102).
أي يقين هذا؟ وأي طاعة لله؟ فأكرمهما الله بأن فداه بكبش عظيم، وأصبح هذا الموقف سنة متبعة إلى يوم الدين.
لكن انظر إلى أبنائنا اليوم! لو طلب أحد الوالدين من ابنه شيئًا يسيرًا، مثل مساعدته في أمر ما، أو حتى الجلوس معه بعض الوقت، لقال الابن: "أنا مشغول! أنتم من جيل قديم لا تفهمون شيئًا!" فكيف نقارن بين جيل تربى على الطاعة والإيمان، وجيل يرى البر بالوالدين أمرًا ثقيلاً عليه؟
امرأة فرعون – الإيمان في قلب القصر
كانت امرأة فرعون تعيش في قصره الفخم، بين الخدم والترف، لكنها لم تكن سعيدة، لأنها كانت مؤمنة بالله. وحين علم فرعون بإيمانها، حاول بكل قوته أن يثنيها عن ذلك، لكنها رفضت، رغم العذاب الذي تعرضت له.
فدعت الله بصدق، وقالت: "رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (التحريم: 11).
فاستجاب الله دعاءها، وأراها منزلها في الجنة، فابتسمت وهي تُقتل، لأنها رأت ما هو أعظم من الدنيا وما فيها.
أم موسى – الإيمان في أصعب الظروف
حين أمر فرعون بقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل، خافت أم موسى على ابنها الرضيع. فأوحى الله إليها أن تضعه في صندوق، ثم تلقيه في النهر. تخيلوا! أم تلقي برضيعها في الماء بيدها، ولكنها كانت واثقة بوعد الله:
"إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (القصص: 7).
وبالفعل، أعاده الله إليها بطريقة إعجازية، بعدما رفض موسى أن يرضع من أي امرأة غير أمه، فعاد إليها في قصر فرعون نفسه، وأصبحت ترضعه تحت حماية من أراد قتله!
أي يقين بالله هذا؟ أي إيمان عظيم يجعل أمًّا تقوم بعمل يبدو مستحيلًا دون أن يضعف قلبها؟ إنها الثقة في الله التي نفتقدها اليوم.
أين نحن من هذا الإيمان؟
هذه القصص ليست مجرد روايات للتسلية، بل هي دروس عظيمة في الصبر والثبات على الحق. اليوم، تراجع الإيمان عند الكثيرين، وأصبحت القيم الدينية تتعرض للاستهزاء بحجة "التطور والتكنولوجيا". لكن أي تطور هذا الذي جعل الناس أكثر قسوة، وأقل رحمة، وأبعد عن دينهم؟
اللهم ارزقنا إيمانًا صادقًا، وقوة في الحق، وثباتًا على الدين، حتى لا نكون من الذين ضعفوا واستسلموا لشهوات الدنيا. والله المستعان على ما نرى في هذا الزمان العجيب!
أضف تعليقك...