
-
بقلم / بيان محمد منير بركات
-
جميع مقالات الكاتب
-
اجتماعي
في زحامِ الأيّام، تضيعُ منّا أشياءُ كثيرةٌ دون أن نشعر. يسرقُنا الركضُ خلفَ المسؤوليات، تبتلعُنا الشاشات، وتتراكمُ المسافاتُ غيرُ المرئيةِ بيننا وبينَ من نحب، حتى نتحوّلَ إلى جُزرٍ بعيدة، متجاورةٍ لكن لا تلتقي. ثم يأتي رمضان، كهديةٍ من ربِّ السماء، يوقظُ فينا ما كدنا ننساه... يُذكّرنا أن هناك أشياءَ لا تُعوّض، وأن الدفءَ الذي يُسكَبُ في القلبِ لا يُشترى، بل يُصنع، حين نكونُ معًا... حين يصبحُ اللقاءُ عبادة.
في رمضان، تعودُ العائلةُ إلى صورتِها الأولى، حيثُ يجمعُنا الأذانُ قبل أن يجمعَنا الطعام، وحيثُ تصبحُ المائدةُ ليست مجردَ طعام، بل لحظةَ انتظارٍ مميزة، نبضٌ واحد، وقلوبٌ تدعو بصوتٍ واحد. الأمُّ التي تطهو بمحبة، لا تُعدُّ طعامًا فقط، بل تصنعُ ذاكرة. الأبُ الذي يدعو لأبنائه قبل أن يتذوقَ لقمة، يمنحُهم بركةً لن ينسوها. الإخوةُ الذين يتضاحكون على مواقفِ الصيام، لا يدركون أنهم يبنونَ خيوطًا سريةً من الحب، ستبقى معهم حتى يكبروا. في رمضان، لا نأكلُ فقط، بل نتذوقُ معنى "معًا" من جديد.
وفي هذا الشهر، يصبحُ كلُّ فعلٍ بسيطٍ داخلَ العائلةِ بابًا للخير... كلمةٌ طيبةٌ بين زوجين، لمسةٌ حانيةٌ من ابنٍ لوالديه، ابتسامةٌ صافيةٌ في وجهِ أخٍ تأخذُه الحياةُ بعيدًا. في رمضان، العائلةُ ليست فقط قربًا مكانيًا، بل قربٌ من القلب.
ماذا لو غسلنا قلوبَنا قبل أطباقِنا... كيف؟ رمضانُ ليس مجردَ صيامٍ عن الطعام، بل صيامٌ عن كلِّ ما يؤذي القلب، وهو فرصةٌ لنغسلَ أنفسَنا من أثقالِ العام، لا بالماءِ، بل بالمودة، بالعودةِ إلى الحبِّ الذي أنهكتْه الأيّام.
كم مرةٍ مررنا بجانبِ من نحبُّ في البيت، ولم نرَهم حقًا؟ كم مرةٍ كنا جسديًا موجودين، لكن قلوبَنا كانت في أماكنَ أخرى؟ في رمضان، كلُّ لقاءٍ هو فرصةٌ للعودة، كلُّ لحظةٍ مع العائلةِ هي جسرٌ نعبرُ به إلى أرواحِهم من جديد.
قال الإمامُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من فقدَ الأهلَ فقدَ السكن". وهل يوجدُ سكنٌ أعمقُ وأصدقُ من العائلة؟ هي الحضنُ الأولُ الذي نعودُ إليه، والأمانُ الذي لا يتغير. حين تنطفئُ أضواءُ العالم، يبقى نورُهم مشعًا، يضيءُ طريقَك ولو كنتَ في ظلمةٍ تامة.
رمضانُ ليس مجردَ ثلاثين يومًا، بل مدرسةٌ يجبُ أن تمتدَّ دروسُها طوالَ العام.
إن كان الإفطارُ قد جمعَنا، فلنحرصْ أن تظلَّ موائدُنا عامرةً بالحُب.
إن كانت الصلاةُ قد قربَتْنا، فلنحافظْ على أن نُصلّي معًا، حتى بعد رمضان.
إن كنا في رمضان نبحثُ عن الخير، فلنجعلْ من بيوتِنا أماكنَ يزهرُ فيها النور، لا في رمضان فقط، بل ما استطعنا ذلك.
وأخيرًا... عندما يرحلُ رمضان، لن تتذكرَ كم ساعةً صُمت، بل ستتذكرُ من كان بجانبِك حين أفطرت. لن تتذكرَ كم مرةً نمتَ وأنت جائع، لكنك ستتذكرُ كم مرةً ضحكتَ مع عائلتِك حتى شبعتْ روحُك.
ستتذكر...
الأوقاتَ التي قضيتموها معًا في صلاةِ التراويح، والشعورَ بالسكينةِ والروحانيةِ الجماعية.
المبادراتِ الخيريةَ التي شاركتم فيها كعائلة، مثل توزيعِ الطعامِ على المحتاجين، وإفطارِ الصائم، واغاثة الملهوف...
هذه الذكرياتُ هي التي تبقى محفورةً في القلب، وتُعيدُ تعريفَ معنى العائلةِ والتواصلِ الحقيقي، فالعائلةُ ليست فقط من نعيشُ معهم، بل من نضيءُ بهم كما يُضيءُ رمضانُ ليالينا. هي الفجرُ الأول، والدعوةُ الأخيرة، وهي اليدُ التي تمتدُّ إليك دائمًا، حتى عندما تظنُّ أنك وحدك...
فاللهم اجعل رمضان هذا العام فرصةً لتجديد محبتنا، وأصلح بين قلوبنا، وألف بيننا، واملأ بيوتنا بالسكينة والرحمة، واجعلنا من عتقائك في هذا الشهر الكريم.
أضف تعليقك...