• icon لوحة التحكم
  • icon

icon الثلاثاء 2023-08-01

التَّعليم في البـــوادي

  • تسجيل اعجاب 2
  • المشاهدات 288
  • التعليقات 1
  • Twitter
التَّعليم في البـــوادي
  1. icon

    بقلم / د. سليمان بن أحمد قندو

  2. icon

    جميع مقالات الكاتب

  3. icon

    تاريخي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أجمعين، وبعد:

فلقد أولى المسْلمون العناية الفائقة بالوسائط التّعليميّة والاهتمام البالغ بالأمْكِنَةِ التّربويَّة، فكانت من تلك المحاضن التّربوية التي تُعْنى بتعليم الصِّبيان وتربية الأبْناء والعناية بهم، "البوادي" وما تشتمل عليها من مرابي ومسطّحات خضراء، وبراري وواحات، وأودية وشِعابٍ وهضاب هي مَظِنَّة مساقط للمياه والأمطار الموسميّة أو على مدار العام.

والبوادي جمع بادية: وهي تلك الأماكن التي تتميّز بوجود مناطق رعويّة تصلح لرعيّ الدواب والأنعام، نظراً لوجود نباتاتٍ عُشْبِيَّةٍ، ونُدْرَة وجودِ الأشجارِ الكبيرةِ لقلة هطول الأمطار عليها.

 ولقد كانت "بادية الشَّام" مقرّ قصورِ الخلفاء الأمويين في عهدهم، حتى عَدّ كثير من المؤرخين ومحققي الأدب بأن بوادي الشام وسيطًا تربويًا وتعليميًا في تلك الحِقْبةِ الزّمنيّة، والتي أسهمت في تكوينِ البِنَاء العقليّ والعلميّ والخلقيّ والجِسميّ السَّليم، وتنمية الملكات اللغوية، كما أنَّ عَادة العربِ جَرَتْ بتربية أبنائهم منذ العصر الجاهلي وكذلك بإرسال أبنائهم إلى المراضع في البوادي والقُرى والهِجَر من أجل نقاء الهواء وسلامة البيئة والذائقة، والرّضاعة والتّنشئة على كريم الخصال، ونبل الخِلال، واكتساب الفصاحة والبيان والبلاغة وأدب المحادثة وسماع الشِّعر وقَرْظِه منْ أهلها، وتَعَلُّمِ الفُروسيّة وضُرُوبِ الرّياضَة، وفُنُون القِتَالِ والمبارزة للعناية بالبُنْية الجسميّة... وقد أخذت السّيدة حليمة السعدية النّبي -صلى الله عليه وسلم- إلى روابي بني سعد ومرابيها وأرضعته، حتى نشأ بها إلى أن شبّ وترعرع وأصبح فتىً يافعًا صلى الله عليه وسلم- وعادت به إلى أهله في مكة.

ومما يجْدرُ ذكره أنَّ اللغةَ العربيَّة الصَّحيحة نُطْقًا ومحادثةً تؤخذ عن أهل الباديةِ بالمشافهةِ والمحاكاةِ والتَّلقينِ والاستماع. وذلك بعد انتشار اللَّحن في كثيرٍ من البلدانِ الإسلاميَّة، لذا اتَّخذَ أهلُ البَاديةِ والقُرَى من أماكن عَيْشِهِم مَكَانًا للتربية والتعليم والتَنْشِئةِ والتَّأديب، حتى إنَّ كثيرًا من المتأدّبين من أبناء الخلفاءِ في مختلف العصور والأزمنةِ أُرسلوا إلى البوادي للتعليم والتّأديب وتعلم العربية ورواية الشِّعر والأدب، إضافة إلى اكتساب الأخلاق الأصيلة، والعادات الحميدة، وكل ما يتصل بحياة البادية من الفروسية والشّجاعة والفتوّة والمروءة والكرم والسّماحة والنّخوة.

يقول أحد الباحثين: ((ومن الثّابت أنّ أبا جعفر المنصور قد أُرضع في البادية، وعاش مع البدو، فقويت صحته، واعتاد الشّدة والخشونة والصّبر على شظفِ العيشِ، وتعرّبت لُغته وفصحَ مَنْطِقه، وحفظَ أقاصيصَ العربِ، وحفظ شعرهم وأمثالهم وحكمِهم ونَوادرهم)).

 والعرب في الجاهلية يفتخرون بلغتهم العربية، ويقدِّرونَها حق التّقدير، وتأثروا كثيرًا بالأدبِ العَرَبّي من شعر ونثر وخطابة؛ فكان الرّجلُ يعدُّ ذا اطلاع ومكانة مجتمعيّة مادام ينظمُ الشعر ويقرظه ويباري به أقارنه أو يكتب النثر، وكانت عواطفهم جيَّاشة تتأثر بالأدب تأثرًا عميقًا، فالقصيدة الحماسيّة أو الخطب الانفعالية تقودهم للحَرْب والاقتتال، وأبيات العَفْوِ والتَّسامح تميلُ بهم إلى الصَّفاء والإخاء والسّلم.  وبعد أن ظهر الإسلام ازداد اهتمامهم بالعربية، فكان القرآنُ الكريمُ في أعلى مراتبِ التَّصويرِ وأرْقى درجاتِ البَيَانِ، والسّنة النبوية جاءت موضحة ومبيّنة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه).

وتشير المصادر إلى أنّ اللغة العربية استمرت فصيحة خالية من الخطأ حتى صدر الإسلام، إلاّ أنّ اتصال العرب بغيرهم من الأعاجم وذلك بسبب انتشار الفتوحات الإسلامية وزيادة الحركة التجارية، أدى إلى سريان اللَّحن في أوساطهم.

ومما يُؤكّدُ ذلك عناية الصحابيّ الجليل عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- بتعليم العربيّة إذ يقول أبا العالية النَّحويّ تـ (93هـ): ((كنتُ أطوفُ مع ابن عباسِ وهو يُعلّمني اللَّحْن)). [أبو عبيد القاسم بن سلام، غريب الحديث، تحقيق: محمد عبدالمعيد خان، (2/233)] ويقْصِدُّ باللحن: الخطأ في كلام العرب احترازاً من الوقوع فيه.

 لقد كان الوقوع في اللّحن من العربي مَعيباً إذْ يُعدُّ خطأ لا يغتفر وزلة لا تمحى، فقد رُوي أن رجلاً لحن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أرْشِدوا أخَاكم)). أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، باب تفسير حم السجدة، برقم (3643)، (2/477). وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

 وتكادُ تنطقُ عبارة الحديث بأن هذا اللحن هو أول لحن سَمِعَه النَّبي صلى الله عليه وسلم، ومِن ثمَّ دعا إلى ضرورة التَّصحيحِ له وتقويم ما اعوجّ من لسانه، إذ لو كان اللَّحن معروفاً عند العرب قبل ذلك لجاءت عبارة الحديث على غير هذا الوجه. عبدالرزاق بن فرّاج الصاعدي، أصول علم العربية في المدينة، (ص281).

وكان اللحن يُنظرُ إليه إلى أنه شيء مُسْتَهْجَن يدعو إلى النُّفورِ والامتهان، رُوي أنَّ كاتبًا لأبي مُوسى الأشعريّ كتبَ إلى عمرَ: "من أبو موسى..." فكتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى أبي موسى: "عزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطًا.." ويُروى أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كانَ يَضْرِبُ أولاده على اللَّحن. ودخل أعرابي السُّوق مرّة فسَمِع النَّاس يلحنون فقال: "سبحان الله!! يَلْحَنُونَ ويَرْبَحُون، ونَحْنُ لا نَلْحنُ ولا نَرْبَح".

ولما كان الوليد بن عبدالملك لم يُرسله والده إلى البادية إيثارًا لراحته وهناءة عيشه، فإنه لم يُتْقِنِ العربية وكان يلحن في قواعدها وأصولها، فكان كثير اللَّحن والخطأ، ومن أجل هذا أثر عن والده أنه كان يقول: "أضرّ بـنا حُـبّنا للــوليد فلم نُرْسِلْه للـبادية".

وبهذا يُسْتَخْلصُ أن البوادي كانت وسيطًا تأديبيًا ومركزاً تعليميًا، يقصده الخلفاء لتأديب أبنائهم وتنشئتهم على الأخلاق الحميدة وتعليمهم اللغة العربية الخالصة من شوائب العجمى، حتى إن بادية الشام كانت مدرسة لتعليم أمراء بني أمية، فإليها أوفدوا أبناءهم بغية تعليمهم العربية من منبعها الأصيل، وليتحاشوا سماع لغة المولَّدين، وتذوّق فنون الشعر والأدب، وتعلم الفروسية وأساليب الاقتتال والمبارزة. وعليه فإننا نجد البادية في القرنين الأولين للهجرة تقوم بدور المدرسة وأكثر في الحاضر.

ولم يقتصر هذا الأمر على الخلفاء والأمراء الأمويين فحسب، بل شمل ذلك أبناء الخلفاء العباسيين، فكان أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور، والمعتصم بن هارون الرشيد.. وغيرهم ممن أُرسلوا إلى البادية لغرض التربية والتعليم والتنشئة.

ولم تكن البوادي مخصصة لتعليم اللغة العربية لأبناء الخلفاء وعلية القوم فحسب، بل قصدها كثير من العلماء والأدباء والفقهاء منهم:

(1) الخليل بن أحمد الفراهيدي -رحمه الله- تـ (170ه‍) فقد سأله الكسائي مرة من أين علمك هذا؟ فأجاب: ((من بوادي الحجاز ونجد وتهامة))، وهذا يدل على تلقيه للعلم والأدب كانت نتيجة إقامته في بوادي الحجاز وهِجَرِها.

(2)  بشار بن برد تـ (176هـ) قيل له مرة: ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلاّ وقد قال فيه شيئاً استنكرته العرب من ألفاظهم وشك فيه، وإنه ليس في شعرك ما يشك فيه !!، قال: ((ومن أين يأتني الخطأ؟ ولدت ههنا، ونشأت في حجور ثمانين شيخًا من فصحاء بني عقيل، ما فيهم أحد يعرف كلمة من خطأ، وإن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت إلى أن أدركت، فمن أين يأتني الخطأ؟)). ولا شك أن في هذا دلالة واضحة تبين عن نشأته وتأدّبه في بوادي بني عقيل وربوعهم وذلك لأخذ العربية.

(3)  الإمام الكسائي -رحمه الله- تـ (189ه‍) فقد ذهب إلى الخليل بن أحمد وجلس في حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركتَ أسدَ الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة وجئت إلى البصرة؟!، فقال للخليل: من أين أخذت علمك هذا ؟! قال: ((من بوادي الحجازِ ونجدٍ وتهامة))، فخرج إلى البادية وتعلم فيها، وقد انفد خمس عشرة قِنِّينَةً من الحبر في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، فلم يكن له هَمٌّ غير البصرة والخليل، وهـو إمام الكوفيين في النحو واللغة، وقد جعـله الرشيد مؤدباً لابنه الأمين.

(4)  الإمام الشافعي -رحمه الله- تـ (204ﻫ) قال: في وصف حياته الأولى: ((ثم إني خرجت عن مكة فلزمت هُذيلًا في البادية أتعلم كلامها، وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة أرحل برحيلهم، وأنزل بنزولهم فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار، وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب)).

(5) الإمام الأصمعي -رحمه الله- تـ (215ﻫ): راوية العرب، صاحب النحو واللغة والأدب والغريب وأخبار العرب، وأحد القراء السبعة، يحكي عن نفسه ويقول: ((حفظت ست عشرة ألف أرجوزة)) فقد خرج إلى البادية وتعلَّم فيها، وكان الإمام الأصمعي -رحمه الله -بحراً في اللغة لا يعرفُ له مثيل ولانظير.

 وبهذا يتبين لنا أن اللغة العربية وحدها هي اللغة السائدة في البادية، الأمر الذي جعلها إحدى وسائط التربية والتعليم التي تعقد بها الحلقات العلمية والأدبية، ويحضرها الراغبون في العلم والأدب والمعرفة ليسمعوا أجود الشعر ويروا أعذبه أرقّه وأعفه، ومنه قول عتبة بن أبي سفيان لمؤدب بنيه: "ثم روّهم من الشعر أعفَّه، ومن الحديث أشرفه...". وليتناقلوا سيرة العرب العظماء وأيامهم وذكر وقائعهم وحياتهم.

ومما سبقَ يظهرُ بجلاءٍ أن البادية تُعدُّ وسيطا تعليميًا، إذْ تُسْهِمُ في بثِّ العلومِ ونشرِ المعارفِ وإيصالها إلى المتعلمين، الأمرَ الذي جعلَ لها عظيمَ الأثر في الارتقاء بمستوى العملية التّربوية والتّعليميّة على مرّ العصور والأزمان.

وبهذا نكونُ قد ألقينا الضّوء على البَوادي وأثرها في اكتساب الجانب العلميّ المتمثّل في تَعلّم اللغة العربية وغيرها من مختلف العلوم والمعارف، ومن مآثِرِهَا امتداد المحاضر العلمية الموجودة لدى الموريتانيين في بلاد شنقيط وغير من بلاد المغرب من أدناه إلى أقصاه، وكذا العناية بالجانب الأخلاقيّ والالتزام بالقيم والمبادئ الإسلاميّة، إضافة إلى الجانب الجسْمِيِّ والصِّحيّ.

نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص والقبول في القول والعمل، وأن يوفقنا إلى العلم النّافع والعمل الصّالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

نشكر الدكتور سليمان بن احمد قندو على هذا المقال الرائع والذي سلط فيه الاضواء على جانب مهم في التعليم الا وهو التعليم في البوادي ومما لاشك فيه ان للبوادي دور كبير وبارز في التعليم خصوصاً في الماضي والذي امتد الى الوقت الحاضر في بعض البلدان والذي أكد عليه الدكتور بالاستطراد والبحث العلمي
ان الامة الاسلامية غنية بماضيها العريق والذي يحمل كل المعاني السامية والاخلاق الفاضلة والأدب الرفيع الذي تفخر به امتنا بين الامم فالحمد لله على هذا الماضي الاصيل ونسأل الله مزيد من التقدم والازدهار للامة في شتى مجالاتها العلمية والعملية ونكرر الشكر للدكتور سليمان على هذا المقال المتميز وبالله التوفيق
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

يوسف محمد عباس برناوي 2023-08-02 المشاهدات 1

أضف تعليقك...

 
  • 5761 زيارات اليوم

  • 47905078 إجمالي المشاهدات

  • 3002989 إجمالي الزوار