• icon لوحة التحكم
  • icon

icon الأربعاء 2022-11-23

أثر العلوم الإسلاميّة على صِنَاعة الحَضَارةِ الغَربيَّة وصِيَاغَتِهَا

  • تسجيل اعجاب 3
  • المشاهدات 539
  • التعليقات 1
  • Twitter
أثر العلوم الإسلاميّة على صِنَاعة الحَضَارةِ الغَربيَّة وصِيَاغَتِهَا
  1. icon

    بقلم / د. سليمان بن أحمد قندو

  2. icon

    جميع مقالات الكاتب

  3. icon

    اجتماعي

إن الحمد لله نَحمد ونَستعينه ونَستغفره ونَستهديه، ونَعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يَهده الله فلا مُضل له، ومن يُضْلل فلا هَادِي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تَسْليمًا مَزِيدًا...

لقد كانت إسهامات العلماء المسلمين في الغَرب في العُصور الوسْطى متعدّدة ومتنوّعة، وأثّرت تأثيرًا ملموسًا على المجالات المختلفة كالفنون والزّخارف المعماريّة والنَّمْنَمَاتِ والفُسَيْفِسَاءِ الإسلاميّة في فَنِّ العمارة وتشييد البُنْيَان، والتّطعيمات المعدنية والمنْحُوتَاتِ والمزخْرَفات المتنوّعة من واردات المنْسوجات والأكْسِيَةِ ذاتِ القيمة العَالية والطّراز الإسْلاميّ الرّفيع، وكذا التّقدّم العِلمي في مجال الطّب والصّيدلة، وعلم الزّراعة والنَّباتات، الجبر، والكيمياء وعلم الفَلك والرّياضيّات، واللُّغات والتّرجمة، والتّقنيّات والتّكنولوجيا، والفِيزياء ... وغيرها.

وكان ذلك في القَرْن الحادي عَشَر الميلادي حيث وفَد عدد من رهبان النّصارى الغربيين إلى بلاد الأندلس للنّهل من العلماء المسلمين في الأندلس والتّتلمذِ على أيديهم؛ لأخذ العلوم وصنوف الفنون خاصة في مجال الطّب والرّياضيات والفلسفة. وكانَ من بَيْن هَؤلاءِ "جيراردو كريموني Gerardus Cremonensis"، أحد المترجمين العمالقة الذين قاموا بترجمةِ الأعمال العلميّة من العربية إلى اللاتينيّة خاصة في مجال الطّب والرّياضيات والفَلْسفة.

لقد نَهَلَتْ أوروبا كلها المعِرفة من الحضَارة الإسلاميّة عن طريق نقل الأعمال العلميّة والنّظريات الطّبيّة وتَرْجَمتِهَا من العَربيّة إلى اللاتينيّة، والاستفادة من الخوارزميات في طريقة أداء العمليات الحسابية باستخدام الأرقام العربية في القرن التّاسع ونقلها إلى اللاتينية والتّي تعرف بالخوارزميّات حتى لدى الغرب بهذا المسمّى.

لقد كان لترجمة أعمال الخَوارِزْميّ أعَظْم الأثر في الاستفادة من علم الرّياضيات في أوروبا. ومما يدلل على ذلك ما أشار إليه أحد الأكاديميين الأمريكيين لاستخدام تاريخ الرّياضيات ويُدْعَى "فيكتور جوزيف كاتز Victor Joseph Katz" قائلًا: «إنّ مُعظم الأعمال الأولى في الجبر في أوروبا، اعتمدت في الأساس على التّرجمات لأعمال الخَوارزمي والعلماءِ المسلمين الآخرين. كما أنَّه كانَ هُناكَ إقرارٌ بأنَّ مُعْظَمَ عِلْمَيّ حِسَابِ الُمثَلَّثَاتِ المستوي والكُروي يُنْسَبِان إلى العلماء المسلمين».

وتشير المصادر العلميّة إلى أنّ كلمة "algorithm" (خوارزمية) كمصطلح علمي في مجال الجبْر والرّياضيّات، مُشْتَقَّة من التّرجمة اللّاتينيّة لاسم العالم المسْلم محمد بن موسى الخَوَارِزْمِي "Algorismi"، وأيضًا كلمة "algebra" (الجبْر) مُشْتَقَة من عِنْوان كتاب "المختصر في حِسَاب الجبْر والمقَابلة"؛ لذا فالكَلِمتَانِ تُصَنَّفَانِ على أنَّهُما كَلِمَتانِ إنْجليزيَّتَانِ بَيْدَ أنْهما عَرَبِيَّتَانِ. كما تَرْجَمَ "روبرت من شيستر" كتابَ المُخْتَصر" في حساب الجبر والمقابلة للخوارزميّ ويقال أن "جيراردو كريموني Gerardus Cremonensis" هو الآخر قام بترجمة "المختصر" في حساب الجبر والمقابلة للخَوارزميّ؛ مما نَتَجَ عنه مِنْ إسهامات العلماءِ المسْلمين بمساهماتٍ عظيمة في حركة التّصنيف والتّأليف والتّرجمة في جميع المجالات العلمية والتّطبيقيّة.

وللعالِم الحسن على بن الهيثم البَصْريّ مؤلفات في علم البَصريّات والفيزياء، وطِبّ العيون، والفَلْسفة العِلميّة والإدراك البصري، اعتمد عليها "إسحاق نيوتن"، و"رينيه ديكارت" كمصادر مهمّة اعتمدوا عليها في أبحاثهم وتجاربهم. وكانت العلوم الطّبية مُتَطَوّرة للغاية عند المسلمين، بشهادة المشاركين في الحملات الصّليبيّة من النّصارى الذين اعتمدوا على الأطباء العَرب في أكثر من مناسبة وذكر "جان دي جوانفيل Jean de Joinville" أحد المؤرخين الفرنسييّن المهتمين بالأحداث والوقائع التّاريخيّة، والمشاركين في الحروب الصّليبيّة إذ يُصَرّح إلى أنَّ مَنْ قَامَ بِتَطْبيبه وإنقاذه طبيبٌ مُسْلِمٌ، وذلك في عام 1250م. كما اعتَمد الغَرب تمامًا على المصَادر والمرَاجعِ العربيّة في علمِ الكيمياءِ، فَقَدْ كانَت التّرجمات من العربية إلى اللاتينية لأعمال العَالم المسْلم جابر بن حيان في الكيمياء، ويعدُّ المرجع الأساس لعلماء الكيمياء الأوروبيين، إلا أنّه لايزال الإسناد الدّقيق لهذه الأعمال العلمية إلى مُؤلفِيها المسْلمين مَثارَ جَدلٍ ومِراءٍ عند بعضهم ويَنْسِبُوهَا إليْهِم.

ومما يؤكد استفادة الغَرب من علماء المسلمين في الكيمياء تَرجمة كتاب "الكيمياء" للعَالم المسْلم جابر بن حيان فقد تُرْجِم في أوروبا بعنوان: "تَراكيب الكيمياء"، والذي قام بترجمته "روبرت من شيستر"، وكذا ترجمة "جيراردو كريموني" لكتاب الرّسائل السّبعين بغض النّظر عَمّن ألّفه، كما تُرْجِمتِ الأعمال الكيميائيّة للإمام الرّازي من العربيّة إلى اللاتينية في حدود القَرن الثّاني عشر الميلادي تقريبًا، ولاشكّ أنّ لهذه الكتب وأسفار العِلميّة تأثيرًا عظيمًا على علم الكيمياء نُشُوءًا وتَطوّرًا في قارة أوروبا حقبة العصور الوسطى، مما أدّى إلى انتقالِ العديدِ من الكلماتِ العَربيّة في المصْطلحات الكيميائيّة إلى اللُغات الأوروبيّة كَجُزْءٍ مِنْ المُصْطَلحَاتِ العِلْميّة في ذاتِ التّخصص والمسَار العلميّ كالحِمْضِ القَلَوِي، والفِلزّات القَلويّة، والتّأكسد، ولفظة إنزيم ... ونحوها.

وفي مجال العُلوم الطّبية والصّيدلة وعلم العقاقير الطّبية ومُستحْضراتها،  فلقد كان لترجمة كتاب "القَانون في الطّب" والذي يُعَدُّ الموسوعة الطّبيّة للعالم الكبير الذي اشْتُهِرَ وسمّاه الغَرب "بأمير الأطبّاء" و"أبي الطّب الحديث" أبو عَلي الحُسَيْنَ بن عَبدالله بن عَلْي بن سِينَا، أحد أعْظَم رُوّادِ الأعمالِ في العُلوم والجِراحاتِ الطّبيّة ومنْها: ظَاهرة نَقْل العَدوى لبعض الأمراضِ المعدية، وتوصِيف الأمراض الموسميّة وأعراضِ وفوارق أمراضِ الحصْبَة والجُدري، وقد تُرْجِمَ كتاب ابن سينا "القانون في الطّب" كما تُرْجِم كتاب "الحَاوي في الطّب" لأبي بكر الرّازيّ، وكتاب "التّصريف لمن عَجز عن التّأليف" لأبي القَاسِم خلف بن عباس الزّهراوي المعروف لدى الغَرْب "بأبي الجِرَاحة الحَديثة" ويعدُّ كتابه دائرة المعرفة الطّبية ومُرْتَكزِهَا إذ اشتهرَ الكتاب وذاع صيته بسبب أقسام الجراحة الطّبيّة المشتملة في الكتاب، ويشْتَمِلُ كذلك على وَصفٍ دقيقٍ لرُسُوماتِ الأنْسِجةِ والخَلايا والسّحايا لأكثر من مائتي جهاز جِراحيّ في جسم الإنسان، وكيف يُمْكِن التّعامل معها في كل عَمليّة جراحيّة تُجرْى، والعَديد منها من ابْتكار الإمام خَلَفْ بن عباس الزّهراويّ نَفْسُه واختراعاته وتميّزه العِلْمِيّ، فَقَدْ تُرْجِمَتْ جميعها من اللُّغة العَربية إلى اللاّتينيّة، ثُمَّ طُبِعَتْ هذه المؤلفات وغيرها لأكثر من مرّة وانْتَشَرتْ في دول أورُوبا ونَواحيها، وظَلَّت مراجع علميّة مُعتمدة في قانون الطّب والعُلوم الطّبيّة لديهم حتى العَصْرِ الحديث، لأهميتها والاسْتِفَادةِ منْها.

ومن الأعمال العلميّة التّي بَرَعَ فيها الُمسْلمون وسَرتْ إلى أوروبا في العصور الوسطى، وانْتقلتْ إليها وذلك باستخدامهم العديد من التّقنيات من بينها التّقنيات الزّراعيّة لجنيّ المحاصيل، والطّواحين، وآلات الرّي والتّقطير، إضافة إلى عدد من الأجهزة الفلكيّة منها: الإسطرْلاب والأجهزة الجراحيّة، والسّاعات المائيّة ... ونحوها.

هذا وبالإضافة إلى انتشار استخدام الاختراعات الإسلاميّة كمضخّات الشّفط لجلب المياه الجوفيّة، وكذا المضَخّاتِ المتسلْسِلَة المحْوريّة لأغراض السّقيا والرّي، فقاموا بتحويل كثير من الأعمال الزّراعيّة التّقليديّة التّي تعتمد على استخدام اليدين والدّواب المختلفة في إنجاز الأعمال الشّاقة إلى استخدام الآلات وفق التّقنيّة الميكانيكيّة، وتوليد التّيار عبر المساقط المائيّة والسّواقي، والاستفادة من قوة الرّياح وسرعتها.

وفي المجمل، يمكن القول بأن انتقال التّقنية القديمة والحديثة من الشّرق الأوسط إلى أوروبا في عَصْر النّهضة، مَثّل أحد أكبر عمليات انتقال التّقنية في التّاريخ العالميّ.

كما سَعى العلماء المُسْلمون إلى صِناعة العطور واستخلاص الأعْباقِ الزّاكية والنّسائمِ المنْعشةِ من مُسْتَحْضَراتِ الزّهور والوُرود واسْتِقْطَارِ تِيجان الأزْهار مع الماء من النَّباتاتِ العِطْريّة. وتذكر المصادر إلى أن العَرب هم أولُ من استخدم تَاجَ الزّهرة لاستخراج ماء الزّهور منذ 1300 عام، ولم يستعمل العرب تاج الأزهار كعطرٍ فقط، بل اسْتَعْمَلوها كَدَواءٍ أيضًا.

وتَكاد تَنْطِقُ تِلْكَ المصَادرِ إلى أنَّ أقدم أنواع العُطور المستخدمة هو «عِطْرُ الوَرْدِ» الذّي كانَ رَائِجًا لدي القبائل العربية، ويستخلصُ من مياسم الأزهار كالياسمين والبنفسج وزهر الليمون والورد، ومن الأوراق مثل: النَّعناع والغرنوق والخزامى، ومن الجُذور كالزّنجبيل والسّوسن.. ونحوهما.

وتكمن الطّريقةُ عند علماء المسلمين في صناعةِ العُطور عبر اسْتِقْطَار تيجان الأزهارِ ببتلاتها ومياسمها، وتَكون عبر وضع رَقائقَ من الزّجاج في إطارات خَشبيِّة حيثُ تُغلّف بدهن نقي وتُغَطَّي بتيجانِ الأزْهار، وتُكَدَّس الواحدة فوق الأخرى. ويجري تَبْديلُ التّيجان بين حين والآخر إلى أن يمتص الدّهن النّقي الكميّة المطْلوبة من العِطر، وهي الطّريقة التّي كان يستخدمها العالم ابن سينا في اسْتخلاص العِطر من الورود والتّي سُمِّيتْ فيما بعد بالتّقطير، ومن أبرز العلماء العرب في صناعة العطور هو أبو يوسُف يَعْقُوب بن إِسْحَاق الْكِنِدي الذي ذَكر في كتابه (كيمياء العطور) قائمة طويلة لعطور مختلفة، وكان في أغلب طُرقه يستخدم المسك والعنبر كجزء أساسيّ في أغلبِ العُطورِ.

ويُرى الباحثُ أن من جميل صُنع عُلماء الغَرْب انتهازهم الفُرصَ إذْ تَحِينُ، وسُرعة استغلالهم للمواقف وحُسْنِ استثمار الفُرَصِ المواتية، وكأنّهم استفادوا من المثل الذّي يَقولُ: "إذا طَرَقَتِ الفُرْصَةُ بَابَكَ.. أُدْعُهَا لِلمَبِيتِ" كما أنهم أحْسَنُوا اختيار وُجْهَة العِلمِ وقِبْلَتِه ومَوْئِلِهِ ومَنْبَعَهِ  إلا وهو "غُصْنِ الأنْدَلُسِ الرّطِيبِ" نظرًا لكون الأندلس امتداداً لمغْرِب العالم الإسلاميّ ولقرب المسَافَة بينها وبين أوروبا لذا يمّموا نحْوها، ولِوفْرةِ العِلم والعُلماء في تلك البِقَاع والدّيار، فإنّ أوّل بَوابة ولِجَها الغرب هي بوابة "اتقان اللُّغة العربية ومعرفة أسْرَارها" والحقُّ أنْ يُطلق عليها "صاحبةُ الجَلالة"، "وتَاجُ العَروس"، "وأمُّ اللُّغات"، لعلْمِهم بأنّهم لَنْ يَصِلُوا إلى الدّراري المكنونة، والجَواهر المدْفُونة، الكُنُوزِ المغْمُورةِ من صُنُوفِ العُلومِ والَمعَارِفِ إلاّ بعد اتْقانهم لها وتَمِكّنِهِم مِنْها، وهذا الذي حَصَل بالفِعل فقد وصَلُوا إلى ما أرادوه، ونَالوا مَقْصِدَهم ووصلوا إلى بُغْيَتِهم بعد أن أبحروا في أعماق العربية وتعمّقوا في معرفة أسْرَارِها. ثُمَ إنّهم وُفِّقُوا في رَسْمِ الخُطْطِ وتَصْوِيبِ الهَدَفِ، والوصول إلى المُرادِ واسْتِغْلالِ الفُرْصة وتَثْمِينِ الوقتِ واسْتِثْمَارِه وعدم إضاعته.

لهذا نَجد اسْتِقْرَارَهُم في مُختلف مُدن الانْدلُس وضَواحيها التّي تَزْخَرُ بالعِلمِ والعُلماءِ كـ "طُليطلة، وقُرطبة، ومَالقا، وإشبيلية، وغَرْنَاطة، بلنْسِية، وسَرْقَسْطَة، وبَاجة" ... وغيرها، وكذا جَنُوب إيطاليا؛ لأنّها من أكثر المناطق انْتاجاً في نقل العُلوم والمعَارِفِ، نظرًا للتّقاربِ بين العلماءِ مُتَعدّدي اللُّغات.

ومِنْ هُنا نَجِدُ أن الغَرْب قد رَحَلُوا إلى تلكَ المُدنِ والعَواصِمِ العِلمية والثَّقافيّة، وأخذوا العَربية على أيدي عُلَمَائِها واستغلُوا وفرة الكتب والمصادر والمراجع في مختلف الفُنون والمواضيع المتنوّعة بالعربيّة، فَعَكَفُوا على تَرْجَمةِ العَديدِ من النُّصوصِ العِلميّة والفَلْسفيّةِ من اللُّغة العربيّة إلى اللاتينيّة، والتّي سَاعَدت في تَنْمية الحَضَارةِ الغَرْبيةِ وأسْهَمَتْ في نَهضتها. ثم رَحَلُوا إلى أوْطَانِهم وبُلدانِهم بعد أنْ نَهلوا من المنيع الصّافي والموْرد العذب، عادوا معلمين وأساتذة أكاديميين ومرشدين وموجهين بعد أن تَتَلْمذوا على أيدي العلماء المسلمين في بِلاد الأنْدلس وما جاورها، فكان لرحيلهم وترحيلهم لتلك العُلوم والمعارف الأثر البالغ في الرّقي بأوروبا ونَقْلِها مِنْ مَرْحَلَةِ الانْحطاط والتّخلّف والظّلاميّة إلى عصر النَّهضة والتّنوير الحضَارةِ المدنيّة.

ومع تنكّر الغربيّين إلى فضل الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة عليهم، فإنَّ بعض كُتّابهم وعلمائهم اعترفوا بهذا الفَضْلِ، وتَحدّثوا عن عددٍ من العلماءِ العربِ المسلمين. ففي كتاب (شمسُ العَرب تَسْطعُ على الغَرْبِ) تقول المستشرقة الألمانيَّة (زيغريد هونكه) مؤلِّفة هذا الكتاب عن الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة ما يلي: «لو أردنا دليلًا على مدى الهوّة العميقة التّي كانت تفصل الشّرق عن الغرب لكفانا أنْ نعرف أنَّ نسبة 95% على الأقل من سكان الغرب في القرون: التّاسع والعاشر والحادي عشر والثَّاني عشر الميلاديَّة كانوا لا يستطيعون القراءة والكتابة. وبينما كان شارل الأكبر يُجهدُ نفسه في شيخوخته لتعلّم القِراءة والكتابة، وأمراء الغرب يعترفون بعجزهم عن القراءة والكتابة، وفي الأديرة، ويَندرُ بين الكهنة من يستطيع مسك القلم ... فقد كانت آلاف مؤلّفة من المدارس في القُرى والمدن، تَسْتقبل ملايين البنين والبنات، يجلسون على سجادهم الصَّغير، يكتبون بحبر يميل إلى السَّواد فوق ألواحهم الخشبيَّة، ويقرؤون مقاطع من القرآن حتَّى يجيدوها. وكان الدّافع إلى كلّ هذا هو رغبتهم الصَّادقة في أن يكونوا مسلمين حقًا كما يجب أن يكون المسلم، فلم يجبرهم أحد على ذلك، بل اندفعوا إليه عن رغبة وإيمان؛ لأنَّ من واجب كلّ مسلم أن يقرأ القرآن ...». كما تحدّثت عن رعاية الدّولة في الإسلام للتَّعليم وعنايتها بالطّفولة واهتمامها بالمدارس والطّلبة والعلماء وتأثير هذه النهضة العلميَّة بأوروبا. ويصرّح هومبولد إذْ يَقُولُ: «إن العرب بلغوا في العلم العملي درجة لم يكن يعرفها أحد من القدماء».

وقال ميجون: «لا نُنْكِرُ على العرب بأن لهم الحظ الأوفر من هذه المدنية وهم واضعو أسسها، وقد أفرغوا هذه العناصر المختلفة في قالبٍ مُتَجَانِسٍ مُتَنَاسِبٍ فأوجدوا منْها مَدَنِية مَطْبُوعة بطابعِ عظمتهم وسَلامة ذَوْقهم. ولم يمضِ قرنٌ على فتوح العرب وبسط سلطانهم على الشّرق وإفريقية الشّمالية وإسبانيا، حتى تَبدّل النِّظام الاجتماعيّ في البلاد المغلوبة، وحَلَّ مَوضعها دينٌ وإدارةٌ وعاداتٌ وأخلاقٌ جديدة، وهكذا يُقال في صناعاتهم وفُنُونِهم وكثيرٌ من احتياجاتهم، وإنَّ توحيد تلك البلادِ من بحرِ الظُّلمات إلى المحيطِ الهنديّ، وإخضاعها لسُلطانٍ واحدٍ، ونظامٍ شاملٍ، وإقبال المسلمين على أداء فريضة الحج، كل ذلك سهّل سُبلَ التّعارف بين المؤمنين، وجعلَ كل واحد منهم يحمل إلى بلاده ما استحسنه في البلدان الأخرى؛ ولذلك رأينا التّأثيرات الشّرقية في أقدم بناء إسلامي في الغرب كالجامع الكبير في قرطبة وجامع سيدي عقبة في القيروان، مغربية بطرز بنائها، مشرقية بزخارفها».

وعلى الجملة فإنّ خاصة الإفرنج استفادوا، بمجاورتهم العرب في صقلية والأندلس، الاطلاع على علوم العرب ومدنيتهم، والاختلاط مع الإفرنج في الحروب الصّليبية فقد استفاد منه خاصتهم وعامتهم على السّواء، وكان من جملة فوائد الحروب الصّليبية أن اقتبس الإفرنج عادات الشّرقيين فاستعملوا الحمامات والألبسة المسترسلة الفضفاضة، ونظموا خيالة مسلحين على الطّريقة الإسلامية.

لقد اعتمد العرب على التّجارب وسبقوا العالم، وظلوا على سبقهم دهرًا طويلًا، وعرفوا مكانة هذه الطّريقة، وليس لليونان في الكيمياء ولا مجرب واحد، ويعدُّ المجربون بالمئات عند العرب، وقد أورثت عادة التّجربة أعمالهم العلميّة هذا الوضوح والإبداع الذي لا ينتظر أبدًا أنه يسقط عليها عند من لم يدرس الظاهرات إلا في الكتب، ولم يَفُتْهُم الإبداع والتّميّزُ في أي فَنٍّ أخذوه أو علم سلكوه، بل حرصوا على إتقانه وإجادته ونَشْرِهِ في كتبهم وعَبْرَ وَسائط تَعْليمهم كالجوامعِ والجَامعات ... ونحوهما.  لذا كان التّأثير الذّي أثّروه -من هذا الاعتبار على دول أوروبا- عظيمًا في الحقيقة فقد عرفتهم الأمم، وكانوا خلال عدة قرون أعمدة العلوم وروّادها، وإليهم يَرْجِعُ الفضل في انتشار العلوم والحضارة إلى أوروبا.

بهذا نَكون قد حَاولنا أن نلقي الضّوء على أثرِ العلومِ الإسلاميّة على صِنَاعة الحَضَارةِ الغَربيَّة وصِيَاغَتِهَا بشيء من الاختصار والإيجاز، والموضوع متشعّب والباب واسع ويتفرع منه مسائل متنوعة وقضايا متعددة ومتلازمة، حَسْبُنا في أوردنا من جوانب ومسائل لعل فيها خيرًا ونرجو منها النفع والفائدة. والله نسْألُ أن يَهْدِيَنا لأحسنِ الأقوالِ والأعْمَالِ والأخْلاقِ لا يَهْدِي لأحْسَنِهَا إلاَّ هُو، وأنْ يَصْرِف عنّا سَيئها لا يَصْرفُ عَنّا سَيئها إلاَّ هو وأن يوفقنا للخير دائمًا وأبدًا، هذا جهدُ المقلّ، فإن كنت قد وُفِّقتُ للصّواب فذاك فضلٌ من الله وحده، وإنْ كنتُ قد جانبته فمن نفسي والشّيطان واستغفر الله وأتوب إليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رَبّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

بوركت هذه الهمم سعادة الدكتور أبا معتز.
طرح جميل، واستقصاء رائع، وتنوع في المساقات التاريخية..
ما أحوجنا لبيان سبقنا في صنع حضارة البشر؛ لنثبت خيريتنا التي آتانا الله إياها نعمة واختبار..

د. ناصر محمد الشمراني 2022-11-23 المشاهدات 1

أضف تعليقك...

 
  • 5737 زيارات اليوم

  • 47905054 إجمالي المشاهدات

  • 3002989 إجمالي الزوار