|
|||||||
تأمّلات في مغْزى الآيات، بمنظور اجتماعي!
قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
(قُلۡ أَعُوذُ): يأمر سبحانه ويرشد عباده إلى الاستعاذة به عز وجل من أربعة أمور هي من أشدّ ما يفتك بحياة الناس. والاستعاذة: لفظ يحصل به الالتجاء إلى الله والاعتصام والتحصن به، (بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ)، الرّبُّ في الأصل: مصدرُ ربَّ يَرُبُّ، بمعنى: نشَّأ الشيءَ من حال إلى حال التمام، يُقالُ: ربَّه وربَّاه وربَّبَهُ، ولا يُقالُ: (الرَّبُّ) بالإطلاق إلا لله تعالى المتكفل بما يصلح الموجودات، كما يطلق الرب على الله معرفًا ومضافًا، فيقال: الرب، أو رب الفلق، أو رب الناس، أو رَب الْعَالَمِينَ، ولا تُطلق كلمة الرّبِّ على غير الله إلا مضافًا محدودًا، كأن يقال: رب الدار، وربُّ الفرس، ونحوه، يعني مالكها أوصاحبُها. وٱلۡفَلَقِ: الصبح الذي يُذهب ظلمة الليل، وفي ذلك بيان لقدرة الله تعالى : (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، وقيل: كل ما يفلقه الله، كفلق الأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك، (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ)، والأمور التي أمرنا الله تعالى الاستعاذة به منها هي: (مِن شَرِّ مَا خَلَقَ)، كل ما خلق الله تعالى من إنس وجان، ودواب وهوام، ومن الآلات والمركبات، أو الأشجار والثمار، وكل ما يحيط بالإنسان، لا يخلو من أن يكون ذا شر مطلق أو محدود أو متوقع. (وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ)، والغاسق: وصف الليل إذا اشتدت ظلمته، ومعنى وقب: في كلام العرب يكون بمعنى الظلمة والسواد، ويكون بمعنى دخل وتغلغل في الشيء، وخُص بالتعوذ أشد أوقات الظلمة من الليل توقعاً لحصول المكروه، لأن شراً كثيراً قد يحدث في الليل، من لصوص، وسباع، وذوات سموم، وتعذر السير، وعُسر النجدة، وبُعد الاستغاثة، واشتداد آلام المرضى، وغيرها، وفيها عدة أقوال، منها: أنه الليل إذا أظلم، كقوله : (إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ)، وهذا قول الأكثرين، ولذلك قيل في المثل: "الليل أخفى للويل"، وقيل القمر، ووقوبه خسوفه، وقيل: الشمس إذا غربت والوقوب على هذا المعنى الظلمة أو الكسوف، وقيل: إن الغاسق النهار إذا دخل في الليل، وقيل: الغاسق سقوط الثريا، ومهما كان المعنى الذي تحتمله الآية، فالمقصود: هو الاستعاذة بفالق الصبح، وفالق الأشياء بعد انغلاقها، من جميع خلقه، ومن شرورهم ومصائبهم ودهمهم بالليل. (وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ)، ٱلنَّفَّٰثَٰتِ: صيغة مبالغة من النَّفث، وهو النفخ مع ريق قليل يخرج من الفم، والعُقَد: جمع عُقْدة من العَقْدِ الذي هو ضد الحل ، وهى اسم لكل ما ربط وأحكم ربطه، والمراد بالنفاثات فى العقد: النساء السواحر، اللائي يعقدن عقدا فى خيوط وينفثن عليها من أجل السحر، ويصح أن يكون النفاثات صفة للنفوس التي تفعل ذلك، فيكون هذا اللفظ شاملا للذكور والإِناث، فتكون الاستعاذة من عملهم وسحرهم وهو محرم، ومن خداعهم للناس وفتنتهم، كما يستعاذ مما قد يصيب الإنسان من شرورهم، (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). كما يستعاذ بالله تعالى من شر الحاسدين، (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)، وهو تمني الحاسد زوال النعمة عن المحسود، وهو خُلُق مذموم طبعاً وشرعاً، وقيل: الحسد أول معصية عُصِيَ الله بها في السماء والأرض، أما في السماء فحسد إبليس لآدم عليه الصلاة والسلام، وأما في الأرض فقتل قابيل لأخيه هابيل. والعين حق، فعين الحاسد قد تصيب المحسود إذا لم يُبرّك، أي يقول: ماشاء الله تبارك الله، أو نحوه، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا رأى أحدُكم من أخيه ومن نفسه ومن مالِه ما يُعجِبُه فلْيُبَرِّكْه، فإنَّ العَينَ حَقٌّ)، لذلك شرع الله التعوذ من شر العين، والحسد محرم، وفيه سوء الأدب مع الله تعالى، لكراهية إنعام الله على عبده واعتراضه على فعله، وفيها تألم قلب الحاسد من كثرة همه وغمه. وعن عائشة رضي الله عنها: (أنَّ النَّبيَّ ﷺ كانَ إذا أوى إلى فراشِهِ كلَّ ليلةٍ جمعَ كفَّيْهِ ثمَّ نفثَ فيهما فقرأَ فيهما قل هوَ اللَّهُ أحدٌ وقل أعوذُ بربِّ الفلقِ وقل أعوذُ بربِّ النّاسِ ثمَّ يمسحُ بِهما ما استطاعَ من جسدِهِ يبدأُ بِهما على رأسِهِ ووجْهِهِ وما أقبلَ من جسدِهِ يفعلُ ذلِكَ ثلاثَ مرّاتٍ)!
تمت السورة، ولله الحمد والمنّة، وبه التوفيق والعصمة!
|