|
|||||||
جلستُ البارحة في مكتبي أُقلّب صفحات كتاب قديم، وأمامي حاسوبي الصغير، وهاتفي الذكي إلى جانبي، وقد سألتُه سؤالاً فأجابني بما لم أكن أعلم، وكتب لي مقالاً في دقائق لم يكن ليكتبه كاتب ماهر في ساعات، وأنشأ لي صورة لم تخطر لي على بال، وترجم لي كلاماً من لغة لا أُتقنها، وكل هذا بأمر مني، وأنا أضغط بأصبعي على زر واحد! فقلت: "سبحان الله"، أخرجتها من قرارة قلبي، ثم فكرت في هذه الآلة العجيبة التي يسمونها "الذكاء الاصطناعي". ما هو إلا برنامج كتبه البشر، ولكنه صار يُحاكي العقل البشري، بل ويتفوق عليه في كثير من المجالات. كيف وصلنا إلى هذا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ سألني ابني الصغير وهو يراني مستغرقاً في تأملاتي: فيمَ تفكر يا أبي؟ قلت له: أفكر في هذا الذكاء الاصطناعي الذي غيّر وجه الحياة، وأخذ يتسلل إلى كل بيت وكل مكتب وكل مصنع. قال: وما الذي يُقلقك؟ ألا ترى أنه صار يُسهّل علينا حياتنا؟ يكتب لنا الواجبات، ويُجيب عن أسئلتنا، ويُساعدنا في كل شيء! قلت: نعم يا بُني، ولكن الحياة ليست سهولة فقط، الحياة كفاح وتعب وبذل، والإنسان يكبر ويقوى بمقدار ما يتعب ويكافح. ألا ترى أن العضلات لا تنمو إلا بالتمرين الشاق؟ وأن العقل لا يقوى إلا بالتفكير العميق؟ فماذا سيحدث للبشر إذا استسلموا لهذه الآلة تفكر عنهم، وتكتب عنهم، وتعمل عنهم؟ قال: ولكن يا أبي، ألم تقل لي دائماً إن الآلات صُنعت لتخدم الإنسان؟ فلماذا لا نستفيد منها؟ قلت: الاستفادة شيء، والاستسلام شيء آخر. الاستفادة أن تستخدم الذكاء الاصطناعي ليعاونك ويُساعدك، أما الاستسلام فهو أن تتركه يُفكر عنك ويختار لك ويقرر نيابة عنك! والمسألة - يا بُني - نسبية؛ فالطبيب الذي يستعين بالذكاء الاصطناعي لتشخيص المرض بدقة أكبر يستفيد منه استفادة عظيمة، ولكن الطالب الذي يطلب منه أن يكتب له بحثاً كاملاً دون أن يبذل أي جهد، هذا لا يستفيد بل يضر نفسه. والمهندس الذي يستخدمه لإنجاز حسابات معقدة في ثوانٍ يوفر وقته وجهده لأمور أهم، أما ذاك الذي يترك الذكاء الاصطناعي ينوب عنه في كل شيء، حتى في الكتابة لأصدقائه وأحبائه، فقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. نظر إليّ ابني نظرة حائرة وقال: ولكن يا أبي، هل الذكاء الاصطناعي خطير إلى هذا الحد؟ قلت: الذكاء الاصطناعي مثل النار يا بُني الذكاء الاصطناعي نعمة عظيمة ساقها الله إلينا في هذا العصر، ولكنه قد يتحول إلى نقمة إذا أسأنا استخدامه. الطبيب الذي يعتمد عليه اعتماداً كلياً قد ينسى مهاراته وخبراته التي اكتسبها عبر سنين طويلة. والمعلم الذي يتركه يكتب دروسه قد يفقد قدرته على شرح المفاهيم بأسلوب مبتكر. والكاتب الذي يستعين به في كل سطر قد تتلاشى موهبته شيئاً فشيئاً. وأخشى ما أخشاه أن يؤدي الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي إلى بطالة واسعة النطاق. أليس من المحزن أن يفقد الناس وظائفهم لأن آلة استطاعت أن تحل محلهم؟ كيف يشعر الإنسان إذا قيل له إن برنامجاً صار أفضل منه وأكفأ وأقل تكلفة؟ ثم إن هناك مخاوف أخلاقية وأمنية، فالذكاء الاصطناعي يمكنه أن يتعلم من مليارات البيانات، ويصنع محتوى مزيفاً يصعب تمييزه عن الحقيقي، فكيف سنثق بعد اليوم بما نراه ونسمعه؟ وكيف سنميز الحق من الباطل؟ قال ابني: هل تريد يا أبي أن نتوقف عن استخدام الذكاء الاصطناعي إذن؟ قلت: لا يا بُني، لا أريد أن نتوقف عن استخدام نعمة من نعم الله علينا، ولكن أريد أن نحسن استخدامها. أريد أن نجعل الذكاء الاصطناعي خادماً لنا لا سيداً علينا. أن نستفيد منه في زيادة إنتاجنا وتحسين حياتنا، ولكن دون أن نفقد مهاراتنا وقدراتنا الإنسانية الفريدة. الذكاء الاصطناعي لا يملك قلباً ينبض بالرحمة، ولا ضميراً يؤنبه إذا أخطأ، ولا روحاً تُلهمه الإبداع والجمال. هو في النهاية مجرد آلة، مهما بلغت من الذكاء والقدرة. لقد خلقنا الله تعالى وميّزنا بالعقل والقلب والروح، وجعلنا خلفاء في الأرض، فلا ينبغي أن نتنازل عن هذه الخلافة لصالح آلة صنعناها بأيدينا. والسؤال الآن: كيف نستفيد من الذكاء الاصطناعي دون أن نقع في أسره؟ أولا: علينا أن نتعلم كيف نستخدمه بذكاء، نسأله الأسئلة الصحيحة، ونتحقق من معلوماته، ونقيّم إجاباته، لا أن نأخذها مسلّمات لا تُناقش. ثانياً: علينا أن نحافظ على مهاراتنا الأساسية، فالطفل الذي يتعلم الكتابة اليدوية رغم وجود الحاسوب، والإنسان الذي يحفظ الشعر رغم وجود الإنترنت، والمهندس الذي يُتقن الرسم اليدوي رغم وجود برامج التصميم، هؤلاء هم الأكثر أماناً في عصر الذكاء الاصطناعي. ثالثاً: علينا أن نركز على المهارات التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي إتقانها، مثل التفكير النقدي والإبداع والتعاطف والقيادة والعمل الجماعي. هذه المهارات ستظل محل تقدير مهما تقدمت التكنولوجيا. رابعاً: علينا أن نضع ضوابط أخلاقية وقانونية لاستخدام الذكاء الاصطناعي، تمنع استغلاله في الإضرار بالناس أو انتهاك خصوصياتهم أو التضليل والتزييف. لقد رأيت بعض الناس يخشون من الذكاء الاصطناعي خشية عظيمة، حتى إن بعضهم يتنبأ بنهاية البشرية على يده! وهذا وهم وخيال، ولكنني رأيت البعض الآخر ينبهر به انبهاراً أعمى، ويظن أنه سيحل كل مشكلاتنا ويجيب عن كل أسئلتنا! وهذا أيضاً وهم وخيال. والحقيقة بين هذا وذاك؛ الذكاء الاصطناعي أداة عظيمة وُضعت في أيدينا، فإن أحسنّا استخدامها كانت نعمة تُيسّر علينا حياتنا وتُساعدنا على حل مشكلاتنا، وإن أسأنا استخدامها أو استسلمنا لها كانت نقمة تُفقدنا خصائصنا الإنسانية وتُضعف قدراتنا الطبيعية. وكم من نعمة تحولت إلى نقمة بسوء الاستخدام! ألم تر إلى المال كيف يكون نعمة بيد من يُنفقه في وجوه الخير، ونقمة بيد من يكنزه أو ينفقه في وجوه الشر؟ وألم تر إلى العلم كيف يكون نعمة بيد من يستخدمه لمنفعة الإنسانية، ونقمة بيد من يستخدمه لصنع أسلحة الدمار والهلاك؟ فلنحمد الله على نعمة الذكاء الاصطناعي، ولنحسن استخدامها، ولنجعلها معينة لنا على طاعة الله وعمارة الأرض. رحم الله من عرف قدر النعم فشكرها، واستخدمها فيما يُرضي الله ولم يستسلم لها! |