|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقت واحد من العام تكسو فيه الأنوار الضواحي والأقاليم، ويعدو الصغار بين الأحياء والحواري حاملين الفوانيس، وتُنصب الأسواق إلى مطلع الفجر، ويختلط الهواء بروائح زكية لأشهى الأطعمة من العصائد والحلوى، ثم يعلو صوت الشيخ محمد رفعت الرخيم يتلو آيات من الذكر الحكيم، تتبعه تواشيح النقشبندي العذبة التي تطيب لها القلوب. كل هذا وغيره من المعالم المميزة للشهر الكريم سجَّلته صفحات الأدب والرواية والشعر والسير، التي حفظت لنا عبق الشهر الكريم بين الأوراق المتآكلة والمطوية. ان لكل شيء رائحة، كل شيء لا اقتصار على طعام أو شراب، أعرف رائحة الفرح، رائحة الحزن، رائحة الخوف، حتى رائحة الصيف والشتاء، لا أقصد رائحة التراب أو المطر، بل رائحة الفترة الزمنية ذاتها، رائحة مادية أشتمها وأعرفها جيدًا، كذلك أدرك رائحة السنين ، رائحة الأشهر بما فيها، وأشم في كل عام وإن نقصت رائحةً لرمضان تفوح من أحشاء الجو، تخرج من ذُرى الساعات والأصوات. واني في كل رمضان اشتم رائحة عمنا شاعر العامية المصري فواد حداد هو «فؤاد حداد» الذي يثب في البال قسرًا كلما هلّ رمضان، يثب مع ذكر السحور ما إن نسمع أي طارق ينبهنا للصحو فيحل في ذهني على الفور الصوت واللحن والرائحة، «سيد مكاوي» يتغنى بأبيات «المسحراتي» من كلمات فؤاد حداد، وإن كان لدولة رمضان المصرية نشيد رسمي هو «رمضان جانا» فبكل تأكيد ستكون حلقات «المسحراتي» هي ختم النسر الذي يصدق على كل ليلة للمرور حتى تأتي ما بعدها. كانت كتابة البرنامج الإذاعي «المسحراتي» في أول الأمر موكلة لـ«صلاح جاهين»، حينها تنحى جاهين نفسه عن الكتابة عارضًا اسم حداد الذي رآه أقدر منه على هذا الصنف من التعبير، وافق حداد مرتابًا وشرع في الكتابة فأنهى خمس حلقات بعد جهد كتابي أحس معه عدم القدرة على المواصلة، لكنها كانت البداية وما أصعب البدايات، انفجر حداد بعدها ليكتب ثلاثين حلقة في ثلاثين أخرى ثم يتوقف بضع سنين ويعود ثانية، ثم قصائد متفرقة ليربو حصاد «المسحراتي» على مئات الأبيات. كتب حداد «المسحراتي» على أوقات متباعدة بدأها سنة 1964 وأكملها سنة 1968، ثم كتب ثلاث حلقات بعد وفاة « الرئيس الراحل عبد الناصر» خاصة برثائه، ثم عاد بعد نصر أكتوبر وكتب حلقات أخرى خاصة بالعبور، وهذا التباعد والتنوع أتاح لـ«المسحراتي» قدرًا أكبر من المقاصد، فـ«المسحراتي» في عموم أهدافها هي دعوة للحاق الفجر، ليس فقط آذان الفجر القائم بعد دقائق ولكن فجر كل شيء، هي نداء لإيقاظ الناس قبل طلوع النهار، ونغز العوام للانتباه لما وصل إليه غيرهم، وإلحاح في الحث على الإمعان فيما حولهم، وتحري التفاصيل جيدًا، تفاصيل المهن والأماكن والأشخاص والأحداث، لتجد في كلٍ منهم وفي أبسط ما فيهم تفاصيل تلخص الدنيا بحالها. المسحراتي ليس فقط لأيقاظ الناس للفجر والسحور، المسجراتي يوقظ الضمير. المسجراتي نداء للخير.
|