|
|||||||
قالت، وهي تنظر إليه بعينين تملؤهما المحبة: "أحب صوتك، ليس فقط حين تتحدث، بل حين تصمت ويبوح بك الحنين. أحب نبرتك حين تروي أمورًا عادية، فأجدها استثنائية لأنك أنت من يقولها. أحب عفويتك، ارتباكك، تفاصيلك التي لا يلتفت إليها أحد، لكنها عندي حياة. أحب كيف تصبح الأشياء أكثر دفئًا حين تكون هنا، وكيف يصبح العالم أقل قسوة وأقل ضجيجًا بوجودك". رفع عينيه نحوها، ابتسم ابتسامة خفيفة، ثم عاد ليكمل حديثه عن العمل، دون أن يدرك أنه كان يطفئ شعلة صغيرة كانت تحاول أن تضيء بها عالمهما. في زاوية هادئة من الحياة، حيث يجلس قلبان تحت سقف واحد، قد يتوه الحب رغم أنه حاضر كضوء خافت لا يراه أحد. ليس لأن المشاعر ماتت، بل لأن لغة التعبير عنها مختلفة. الحب، كأي لغة في هذا العالم، له لهجاته المتعددة. يقول الدكتور غاري تشابمان في كتابه (لغات الحب الخمس): "إن كل شخص يتلقى الحب ويعبر عنه بطريقته الخاصة، وإذا لم تُفهم هذه اللغة، فقد نعيش في صمت عاطفي مرير، رغم أننا نحاول جاهدين أن نحب. فالحب وحده لا يكفي إن لم نتعلم كيف نوصله إلى من نحب. المشكلة ليست في تغيير المشاعر، بل في فهم كيف نعبر عنها بطريقة تصل إلى القلب الآخر". في كثير من العلاقات، لا يكون الحب غائبًا، بل يكون محاصرًا بين لغتين مختلفتين، كل منهما تنتظر من الأخرى أن تفهمها دون ترجمة. ولكي نترجم هذا الحب، لا بد أن ندرك أولًا: هل الحب يُقال أم يُفعل؟ هناك من يحتاج أن يسمع الحب بوضوح، فالكلمات الطيبة هي غذاء قلبه. لكن هناك من يرى أن الأفعال أصدق من الكلام، وأن الحب لا يحتاج إلى عبارات، بل إلى مواقف تثبته. إذن، فالبعض يطمئن بالكلمات، والآخر يجد الحب في الأفعال. أما عن بعض القلوب، فهناك من لا ينتظر كلمات الغزل ولا حتى الأفعال المبالغ فيها، بل يكفيه أن يكون بجانب من يحب، بلا هواتف، بلا مقاطعات، فقط حضور صاف واهتمام. فكم من علاقة ذوت لأن أحد الطرفين كان حاضرًا جسديًا، لكنه غائب فعليًا، بينما كان الآخر يبحث عن الاهتمام الفعلي. وقد كان النبي الكريم ﷺ قدوة في إعطاء الوقت لمن يحب، فقد ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كُنْتُ أشْرَبُ وأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ علَى مَوْضِعِ فِيَّ، فَيَشْرَبُ، وأَتَعَرَّقُ العَرْقَ وأَنَا حَائِضٌ، ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَيَضَعُ فَاهُ علَى مَوْضِعِ فِيَّ). تصرف بسيط، لكنه حمل من الدفء والاهتمام ما يكفي ليجعل اللحظة ذكرى لا تُنسى. وهناك من يرى في الهدية لغة عميقة، ليست في قيمتها بل في رمزيتها؛ أن تشتري لها قهوتها المفضلة دون أن تطلب، أو تهدي له عطره المفضل أو هدية تعكس معرفتك به. فالهدايا ليست مجرد أشياء تُقدم، بل هي وسيلة يقول بها أحدهم للآخر: "أنا أفكر بك". وهناك أشخاص يرون الحب في الأفعال الخدمية، أي أن الحب عندهم لا يُقاس بالكلمات أو الهدايا، بل بما يُبذل من أجلهم. فهم يشعرون بالحب حين يجدون من يقوم عنهم بشيء يخفف عنهم الأعباء، سواء كان إعداد وجبة، أو حتى أداء مهمة صعبة عليهم. بالنسبة لهم، هذه الأفعال ليست مجرد مجاملات، بل رسائل حب صامتة تقول: "أنا أراك، وأهتم لأمرك، وأريد أن أجعل حياتك أسهل". وهناك من يرى في التلامس الجسدي لغة لا تقل وضوحًا عن الكلام، بل تفوقه أثرًا. بالنسبة لهم، العناق قد يكون وعدًا، واليد التي تُمسك بأخرى وسط الزحام قد تعني "لن أتركك"، والتربيت على الكتف قد يهمس "أنا معك". إنهم لا يبحثون عن الكلمات، بل عن الشعور الملموس، عن القرب الذي يُشعرهم بالأمان، عن اللمسة التي تُخبرهم دون حديث أن الحب موجود، حاضر، وممتد. فبالنسبة لهم، بعض المشاعر لا تُقال، لكنها تُشعر... في كفّ يحتضن كفًا، في أصابع تعبث بخصلات الشعر، في لمسة خفيفة تمسح تعب الأيام دون الحاجة إلى تفسير. وأخيرًا ... الحب لا يموت فجأة، لكنه قد يتلاشى ببطء، بين كلمات لم تُفهم، وإشارات لم تُلتقط، ومشاعر كانت تبحث عن طريق للوصول لكنها أضاعتها في منتصف الطريق. وكما أن لكل لغة أبجدياتها ولهجاتها، فإن لكل إنسان طريقته الفريدة في التعبير عن الحب وتلقيه. فهو ليس مجرد إحساس، بل مهارة تحتاج إلى وعي، وعمل يحتاج إلى بذل. فمن أدرك لغة من يحب، استطاع أن يُبقي شعلة الحب مضيئة، مهما اشتدت رياح الحياة. فكما قيل: "الحب هو أن ترى في قلب الآخر ما لا تراه العين". |