عندما ننشد السعادة في عوالم زائفة


الثلاثاء 2025-02-04

هل شعرت يومًا أن كل شيء من حولك صُمّم ليخطف انتباهك؟ ما الذي يجعلنا عالقين أمام شاشة الهاتف لساعات؟ ولماذا يبدو كل شيء عاديًا عندما نحاول الاستمتاع بلحظة هادئة؟

في عالم تتراقص فيه الأضواء وتتزاحم فيه الإشعارات مع أنفاسنا، تبدو السعادة سلعة على الرف، تنادينا بابتسامة زائفة تحمل وعودًا بالتوهج اللحظي. باتت المتع كأنها أمطار هاربة؛ لا تمسك بها كفّ ولا تروى بها الروح. نحن هنا، نعيش في زمن الدوبامين؛ ذلك الناقل العصبي في الدماغ أو ما يعرف بهرمون السعادة، حيث الإغراء حاضر دائم، والانغماس هو الطقس السائد. لكن هل هذا هو وجه السعادة الحقيقي؟

قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} كأنما تصف هذه الآية حالنا اليوم؛ نلهث خلف كثرة المتع والملذات حتى ننسى الغاية الحقيقية من وجودنا.

إنها معادلة دقيقة ومربكة؛ كل نقرة على شاشة هاتفك، كل قطعة حلوى تذوب في فمك، كل إعجاب افتراضي يتسلل إلى وجدانك، يترك أثرًا صغيرًا لكنه عميق في دماغك. يعزف الدوبامين سيمفونية من النشوة العابرة، لكنه لا يملك نغمة الاستقرار. ومع تكرار الجرعة، تتضاءل المتعة وتتعاظم الحاجة.

هذا العالم الرقمي الذي يمطرنا بالخيارات جعل من الصعب علينا الاستمتاع بما هو بسيط وثابت. نجلس مع أحبائنا لنحتسي القهوة لكننا نصوّر فناجين القهوة بدلًا من تذوقها. نركض خلف أهداف قصيرة المدى، نلاحق المتع السريعة وننسى أن السعادة الحقيقية ليست في اللحظة المشتعلة، بل في شعور الدفء الباقي بعد انطفاء الضوء في القناعة في الرضا بما في أيدينا دون سعي مجنون لما لا نملك.

لكن، كيف نسترد زمام السيطرة؟ كيف نكبح جماح هذا الوحش الكيميائي الذي يأخذنا رهائن في أرض الوهم؟

تقول الطبيبة النفسية "آنا ليمبكي": إن التعرض المطوّل والمتكرر للمنبهات الممتعة يقلل قدرتنا على تحمل الألم. نصبح غير راضين أبدًا، ونبحث دائمًا عن المزيد. وهنا تكمن المشكلة...

إن مفتاح النجاة من سطوة الدوبامين يكمن في العودة إلى البساطة والتوازن. جرّب أن تنفصل عن عالم الشاشات ولو ليوم واحد؛ اسمع فيه صوت الطبيعة أو المس أوراق كتاب ورقي دون تشويش رقمي. لا بأس ببعض الانضباط؛ فالصيام (أي صيام الدوبامين) عن المتع اللحظية ليس حرمانًا، بل استعادة للسيطرة.

تذوق جمال التفاصيل الصغيرة في الحياة: كأس ماء بارد بعد عطش، صحوة لصلاة الفجر حيث الكون ساكن، أو جلسة هادئة مع عائلتك دون استخدام الهاتف. اربط قلبك بالعبادات اليومية؛ فالركوع والسجود ليسا مجرد حركات، بل محطات لتنقية الذهن وصلة بين المرء وخالقه. ستكتشف أن قدرتك على الاستمتاع بما هو بسيط ستعود تدريجيًا.

ولا تنسَ مقولة ابن القيم: "إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته".

في نهاية الرحلة، التحرر من فخ الدوبامين ليس مجرد محاولة للتقليل من الإدمان، ولا يتعلق الأمر بحجب المتعة، بل بإعادة تعريفها. فهذا الهرمون (الدوبامين) الذي خلقه الله ليكون رسول الفرح عند تحقيق الإنجاز، لا ينبغي أن نحوله إلى أداة خفية تسير بنا نحو الإدمان وتسلبنا القدرة على الاستمتاع بما هو أعمق وأصدق.

إن أردنا أن نعيش حقًا، لا أن نستهلك الحياة، فلنضع أقدامنا على طريق التوازن، حيث السعادة ليست وهجًا عابرًا بل شعور ممتد يستقر في القلب.

وكما قال الشافعي: ليس في الدنيا سرور يعدل سرور العبد بمناجاة ربه.