مآثر ورثاء في فقد رمز وركن التربية والتعليم في طيبة الطيبة الدكتور بهجت بن محمود جنيد رحمه الله


الاثنين 2025-01-27

بقلم الدكتور خالد بن محمد العلمي

لقد جاءت هذه العبارات في وقت روَّعنا فيه خبرٌ عَزَّ عليَّ وعلى مجتمع التعليم مستمعه، وأَثَّر في قلبي وفي قلب أهل التعليم موقعه، خبر تستاء له المسامع، وترتج منه الأضالع، وماذا عسانا أن نصنع، والقدر نازل، والموت حكم شامل، فإن لم نعتصم بحبل الصبر فقد اعترضنا على مالك الأمر، وما علينا إلا العزيمة بالصبر، فإنها من الدين حتم، وفي الرأي حزم، وما لنا إلا التفويض والتسليم لصاحب المشيئة والأمر.

حكم المنيـــة في البرية جارٍ

                  ما هــذه الدنيــا بدار قرارِ

بينــا يُرى الإنسان فيهــا مخبرًا

                  حتى يُرى خبرًا مــن الأخبارِ

طُبعــت على كدر وأنت تريدها

                  صفـــوًا من الأقذار والأكدارِ

والنفس إن رضيت بذلك أو أبت

                  منقـــادة بأزمـــــة الأقــــدارِ

يا كوكبًا مــا كان أقصر عمره

                  وكذاك عمر كواكب الأسحارِ

قصــرت مسافتــه وما حسناته

                  عنـــدي ولا آلاؤه بقصـــارِ

ذلكم هو رحيل حبيبنا الكريم الفاضل، صاحب المناقب والفضائل، صاحب الخلق الراقي والمكارم حبيبنا الدكتور: بهجت بن محمود جنيد، فقد رُزأ التعليم بفقد هامة عظيمة من هاماته، وركن شديد من أركانه، لقد رحل عنا حبيبنا الغالي إلى جوار ربه، يوم الخميس ليلة الجمعة الموافق للثالث والعشرين من شهر رجب الحرام لعام ستة وأربعين بعد الأربعمائة والألف من هجرة من له العز والشرف، وصَـلّى عليه الآلاف فجر يوم الجمعة في المسجد النبوي الشريف، وَوُري الثرى في بقيع الغرقد مع الآل والأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين، فهنيئًا له جواره لجده المصطفى صلى الله وسلم في الدنيا والبرزخ وفي جنات النعيم بإذن رب العالمين.

بكى عليــك الحســـام والقلم

                  وانفجــع الكُلُّ فيـــك والعلَمُ

ما فقـــد فردٍ من الأنـــام كمن

                  إن مـــات ماتت لفقــــده أممُ

فهذا الخير الذي ورَّثه من ريادة التربية والتعليم في طيبة الطيبة لجيران النبي صلى الله عليه وسلم وأبناء طيبة الطيبة لعدة عقود من الزمان لهو مما يلحق أجره وثوابه لحبيبنا وفقيدنا بإذن الله، فقد روى ابن ماجه بإسناد حسن والبيهقي وابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علَّمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، أو مصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته".

سارت جنازتــه والكُلُّ في جزع

                  والفضل يندبه في ضمن من ندبا

أخي القارئ الحبيب:

إني أسطر هذه الكلمات ويعلم الله بأن الأسى والحزن ليعتصران القلب والفؤاد بفقد هذه الهامة العالية في التربية والتعليم، والتي بنت وربَّت أجيالاً متتابعة على مكارم الأخلاق وعلى العلم النافع، فقد عرفتُ هذا الحبيب عن قُرب من منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان ورافقته حضرًا وسفرًا، وما رأيت منه يوماً سوء خلق أو تبرم أو تأفف أو  أو أو، فوالله ثم والله ما هي إلا الأخلاق الراقية وحسن الخلق الذي مدح صاحبه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: $ذهب حسن الخلق بالخير كله# وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطئون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون".. الحديث.

فقد كان كذلك وأكثر من ذلك، ونحن شهداء الله في أرضه، وهذه الشهادة تناقلها المئات إن لم يكن الآلاف ممن يعرفون هذا الرجل العظيم وخالطوه عن قرب، فقد كان لا يتعمد أذية أحد من خلق الله ويبحث دائمًا عن المخارج التي لا يُوقع فيها عقوبة على أحد من رعيته إلا إذا دعت الضرورة الملحة لذلك، وهذا كله مع قوة في شخصيته وضبطًا لعمله، وحنكة وحكمة في تسيير الأمور واختيار القادة من رجال التربية والتعليم في صرح التعليم الشامخ الذي كان على رأس هرمه وسُدة قيادته، فقد اجتمعت فيه صفات القوة في غير عنف واللين في غير ضعف، لقد رأيت فيه حب الخير والنفع للمسلمين، وحبه للقرآن وأهل القرآن وتقديره لهم وعنايته بهم وتحقيق مطالبهم، فقد بلغ به حبه للقرآن أن فتح بيته لأن يجتمع فيه أحبابه وخواصه يوم الجمعة من كل أسبوع بعد صلاة المغرب لدرس القرآن الكريم وكنت أحضره مع أحبابه لدراسة وتلاوة وختم القرآن الكريم، ومن شدة حرصه على أن يستمر هذا الدرس وهذه الحلقة في بيته وفي موعدها بدون انقطاع حتى ولو كان مسافرًا فإنك تراه يتصل بأولاده لتهيئة المكان والضيافة محبيه في مجلسه العامر في هذا الوقت حبًّا لكتاب الله عزوجل، وقد حضر في هذا الدرس والده رحمه الله عدة مرات عند قدومه للمدينة.

أخي القارئ الحبيب:

هذا شيء قليل من الحياة الخاصة التي نعلمها عن هذا الرجل وحبه للخير والقرآن، وأما أعماله العامة فحدِّث ولا حرج والتاريخ وسجل التربية والتعليم يتحدثان عن ذلك، فقد عُني رحمه الله أيما عناية بجودة التعليم وارتقاء المدارس وتوفير كل ما تحتاجه هذه المدارس من بُنية تحتية وعلمية وإدارية وفنية وغير ذلك، فأثره بإذن الله باقٍ ومستمر وبهذا تُعرف وتُمدح الرجال، فجزاه الله عن ذلك خير الجزاء.

ولله در الإمام الشافعي رحمه الله حين قال:

وأكرم الناس ما بين الورى رجلٌ

                  تُقضى على يده للناس حاجاتُ

قد مات قومٌ وما ماتت فضائلهم

                  وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ

ولله در القائل:

الناس صنفــان موتى في حياتهم

                  وآخرون ببطــن الأرض أحيـــاء

هذا وإن العوض الجميل، والخلف من الله العلي القدير بعد الله في ذريته من صلبه الذين لا يزالون يحملون اسمه، وكذلك أبناؤه من أبناء وأجيال التربية والتعليم الذين تتلمذوا على يديه فيلحقه بذلك -بإذن الله- أجرهم ونفعهم، فسلام عليك يا حبيبنا الغالي وصاحب الخلق العالي في الأولين، وسلام عليك يا بهجت الابتسامة والخير والعطاء في الآخرين، وسلام عليك يا بهجت الأخلاق في الصالحين، وسلام عليك في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.

وأختم بقصيدة في رثاء حبيبنا الدكتور بهجت نظمها أحد أبناء التربية والتعليم الذين درسوا في طيبة الطيبة والذين عرفوا الدكتور بهجت وتسلموا من يديه الحانيتين في ملتقيات التربية والتعليم جوائز التقدير والتميز والموهبة وتحديدًا في ثانوية طيبة وهو الأخ الفاضل المهندس الشاعر المحب أحمد بن السيد يوسف، فقال فيها مشكورًا مأجورًا ما نصه:

إلى الرحمنِ تَرحـــلُ يـا حَبيبُ

                  وقــد بكــتِ المآقي والقُلُوبُ

على من عاشَ بالأخلاقِ عُمْرًا

                  فبالأخـــلاقِ ذِكـــراهُ تَطيبُ

وكــانَ لمَركبِ التَّعليــمِ رأسًا

                  عقـــودًا في المدينةِ لا تَغِيبُ

فمــا جَهِلَتْ على أحــدٍ يَداهُ

                  ولا عُرِفتْ بساحتِهِ عيوبُ

ولكن "بَهجَتُ" الأسمى "جُنَيْدٌ"

|                 بِحُسْنِ خِصالِهِ الشَّهْمُ الحَبيبُ

على المرضِ الأليمِ ازدادَ صبرًا

                  لتعليَ قدرَهُ تلكَ الخُطُوبُ

ويلقـــى رَبَّهُ في خَيــــرِ أرضٍ

                  وقد شفعَ اللقاءَ له المَشِيبُ

وأقـــوامٌ كِــــرامٌ عاشَـــرُوهُ

                  وأثنَـــوا أنــــهُ نِعْــمَ الأدِيبُ

هنيئًا مـــا أتـــاكَ مِنَ المَعالي

                  ودعْـــواتٍ لها المــولى يُجِيبُ

وصلـــى اللهُ سَلَّمَ كُلَّ حِينٍ

                  على طـــه الحبيبِ ومَنْ يَؤُوبُ