(في أفياء تراث العربية)


الثلاثاء 2024-07-09

ما جاء عنهم في حفظ اللسان 1

تراث اللغة العربية الأدبي يُثْرَى -ولا ريب- مَنْ يَتفيَّؤ ظلاله.

وفي هذه الزاوية نسعى لتقديم ما يكشف عن أسباب حُكمنا ذاك. أمَّا في هذا اللقاء، فنستحضرُ منه عن قضية "صَوْن اللِّسان" مجموعة من النصوص الشعرية، تستدعيها حاجةُ عالَمِنا ومجتمعاتِنا الشديدة لتلقِّيها والاستمداد منها استمدادًا يُغْـرِي ويُثْري، والعملُ به يَملأ الحياة رحمة وطِيبًا يدفعُ عنها كثيرًا من أسباب المعاناة والشقاء التي باتتْ تَتَسَلَّلُ إلى كثير من جوانب حياة الإنسان.

ومن تلك الأسباب إطلاقُ العَنان لِلِّسان، وذلك واقعٌ بكثرةٍ صادِمة مخيفة، بلغتْ في مواقع التَّواصل الاجتماعي وغيرها، حَدًّا لا مزيدَ عليه؛ حيثُ الخوضُ في كلِّ أمرٍ وشأن، وحيثُ الوقوعُ في أعراض الناس وكشف خصوصياتهم، والإزراء بهم وازدرائهم، لمجرد الاختلاف في الرأي معهم.

والنَّاظر في التُّراث الأدبي للعربية، يَجِدُ كمًّا هائلًا من نصوص التحذير من ذلك الإطلاق (إطلاق العنان للسان)، وما يؤدِّي إليه. وواقعنا المُعاش بحاجة ماسَّة لتلقِّيها وبَثَّها بين النّاس؛ توصيَةً وتذكيرًا. وفيما يلي مجموعة مختارة من النصوص الشعرية الواردة فيه. قال الشاعر:

وَزِنِ الكـلامَ إذا نَطَقـتَ ولا تَكُـنْ ** ثَرْثـارَةً فـي كــلِّ نـادٍ تَخْـطُبُ

واحفظْ لِسانَكَ واحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ ** فالمَرْءُ يَسْلَمُ باللِّسانِ ويَعْطُبُ

وصيَّةُ نَهْيٍ عن أنْ يكون الإنسان ثَرثارًا، ففي الثرثرة وعدم تفكير الإنسان فيما سيقوله، جَرٌّ إلى الوقوع فيما لا تُحمدُ عُقباه. ووصية الشاعر تلك، جاءت مُتَمَثِّلة بالآية الكريمة التي تحمل ضِمْنِيًّا تحذيرًا شَّديدًا من إطلاق العنان للِّسان، وهي قوله تعالى: ﴿مَّا یَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَیۡهِ رَقِیبٌ عَتِیدࣱ﴾.

وشاعر آخر يتحدث عن العلاقة التَّلازُمِيَّة بينَ عقل الإنسان، وما يَنْطِقُّ به حيث يقول:

وَزِنِ الكَـلامَ اِذا نَطَقـتَ فَإِنَّمـا ** يُبـْـدِي عُـقُولَ ذَوِي العُقولِ المَنْطِقُ

المراد بـ "المَنْطِق" في البيت: الكلام، والمَرءُ مدعوٌّ لأنْ يُفَكِّر فيما سيقول قبل أنْ يقوله. وفي المعنى نفسه تقريبًا، جاءَ قول الشاعر:

وفي الصَّمْتِ سِتْرٌ لِلْعَيِيِّ وإِنَّما ** صَحِيفَةُ لُبِّ المَرْءِ أنْ يَتَكَـلَّما

"العِيُّ": عَجْزُ المَرْءِ عن بيان مُراده، وإبلاغ حُجَّته، ومَنْ كان كذلك يُسمَّى"عَيِيًّا". والِعِيُّ يكون ناتِجًا إمَّا عن جهلٍ، أو خللٍ في المنطق، أو في طرائق التفكير، أو عن فقرٍ وافتقادٍ للمهارات اللغوية. وافتقاد كثيرٍ من تلك المهارات، أصبحَ شائعًا جدًا في زمَننا حتى صارَ مِنْ سِماتِ الكَثْرَة الكاثِرة من أهله، ومن أسبابه اعتياد الكتابة بالعاميَّات وقراءة ما يُكتَب بها. و"اللُّبُّ": العَقل، وهو مِنْ كلِّ شيءٍ: خالِصُهُ وخِيارُهُ، ونَفْسُهُ وحقيقتُه. واللَّبيبُ: ذو اللُّب؛ فالشاعر يذهب إلى أنَّ الكلام هو الكاشف عن المستوى العقلي للمتكلم.

ومِمَّا يَستدعي التَّعجُّب -عند أحد الشعراءـ مسارعةُ مَنْ لا يمتلكُ الأدواتِ -ومنها ما ذكرناه آنفًاـ إلى الخوض والإدلاء، وتَوَقُّفُ المُمْتلكِ لها القادرِ عليها عن ذلك، يقول:

عَجِبْتُ لإِدْلالِ العَيِيِّ بِنَفْـسِهِ ** وصَمْتِ الذي قد كانَ بالقَوْلِ أعْـلَما

وما أرى ذلك الصَّمت مِنْ المُمْتَلِكِ للقدرات والأدوات، إلّا تَرَفُّعًا منه، وامتناعًا عن أنْ يضع نفسه في موضع واحد وذاك العَيِيِّ.

والصَّمْتُ، حالة كونِهِ اختيارًا لا اضطرارًا ناشئًا عن عِيٍّ، محمودٌ؛ إذْ هو من وسائل السّلامة:

إذا لمْ يكنْ صَمْتُ الفتى عن ندامةٍ ** وعِيٍ فإنَّ الصَّمتَ أَوْلى وأسْلَمُ

في الشطر الأول من البيت، حَثٌّ ضِمْنيٌّ على أنْ يشتغل المرءُ بما يُنمَّي قُدراته في مجال القول، بحيثُ يُصبحُ قادرًا على الإدلاء الصائب برأيه، ومنْ ذلك تنميته لِمهارات الكتابة والقراءة الناقدة ومهارات التفكير لديه.

والصَّمتُ، تَرَفُّعًا، ممدوحٌ محمود؛ لِنتائجه المُعْجِبَة، والأمور تُقاسُ بنتائجها، قال الشاعر:

والصَّمْتُ عنْ جاهلٍ أوْ أحَمْقٍ شَرَفٌ ** وفيه أيضًا لِصَوْنِ العِـرْضِ مِفْتاحُ

وبعد، فهذا، غيضٌ من فيض، ومازالَ في جُعبة تُّراث العربية الأدبيِّ الكثيرُ الكثيرُ في ذلك الشَّأن؛ مع تناولٍ له من جوانب أخرى، وفي ذلك دلالةٌ على أنَّه كان عند القوم شأنًا ذا خطورة بالغة، وخطورته على الفرد مُطْلِقِ الكلام على عواهنه، إثمًا ومُحاسبة تُفضِي إلى وقوعه في شديد العذاب يومَ الحِساب، وخطورته على المجتمع إساءة إلى الناس، ومعاناة وتَفْرِقة وفَصْمًا للعُرَى والوَشائج. ونعرض بعضًا مِمَّا جاء منه، اللقاء القادم -إنْ شاء الله-، وسيكون مخصَّصًا للمقولات النَّثرية.