الحبس والسد


الأحد 2023-06-04

الحبس: بضم الحاء وفتحها وكسرها، موقع ورد ذكره في تاريخ المدينة المنورة، وتخبرنا معاجم اللغة أن الحبس هو: (كلُّ مَا سدَّ بِهِ مَجْرى الْوَادِي فِي أَيّ مَوْضِعٍ حُبِسَ؛ وَقِيلَ: الحِبْس حِجَارَةٌ أَو خَشَبٌ تُبْنَى فِي مَجْرَى الْمَاءِ لِتَحْبِسَهُ كَيْ يَشْرَبَ القومُ ويَسقوا أَموالَهُم، وَالْجَمْعُ أَحْباس، سُمِّيَ الْمَاءُ بِهِ حِبْساً)، (هُوَ فلُوقٌ فِي الحَرَّة يَجْتَمِعُ فِيهَا مَاءٌ لَوْ وَرَدَتْ عَلَيْهِ أُمَّة لَوَسِعَهُمْ)، وبناء على التعريف اللغوي يتضح أن كلمة الحبس مرادفة لكلمة السد، وهناك من علماء اللغة من يفرق بين السد – بفتح السين – وهو ما صنعه البشر وهذا يتوافق مع كونه من الحجارة أو الخشب، وبين السد – بضم السين – وهو طبيعي التكوين مما يتفق انه فلوق في الحرة يجتمع فيها الماء ، ومن العلماء من يجعلهما شيئًا واحدًا ولا يفرق بينهما، وارتباط كلمة الحبس بالسيل والوادي يدل على وقوعه في مجراه حيث يعمل على جمع مائه وحبسه.

وبتتبع الروايات واستقرائها نجد موضعين يطلق عليهما الحبس وهو من باب التواطؤ التكويني للمنطقتين يجمعهما وجود فلوق في الحرة، أما الموضع الأول فهو حبس سيل ويقع جنوب شرق المدينة المنورة جهة منطقة السوارقية وهو الذي أورده ياقوت الحموي قائلا: (الحبس بين حرّة بني سليم والسوارقية).

أما الموضع الاخر الذي نحن بصدده فيقع أعلى وادي الشظاة وهو صدر وادي قناة، فوادي قناة لا يكتسب هذا الاسم إلا عند وصوله إلى جبل أحد ودخوله المدينة المنورة من شماليها.

 وفي هذا الموضع، يقول السمهودي(والسد الذي أحدثته النار يسمى اليوم بالحبس)، ويقصد بالنار هنا البركان الذي ثار في سنة 654هـ، وهذا فيه إشارة الى ان الحبس مظهر طبيعي نتج من تجمد اللابة.

ولكن؛ هناك ما يشير إلى أن المنطقة كانت تسمى بالحبس وبالسد قبل ثوران البركان الأخير وفي هذا الصدد يقول السمهودي: (قلت: وأهل المدينة اليوم يسمون السد الآتي وصفه فيما أحدثته هذه النار بالحبس، وفي كلام ياقوت ما يقتضي أنه كان يسمى بالسد قبل هذه النار؛ فإنه لم يدركها، ومع ذلك قال: إن أعلى وادي قناة عند السد يسمى بالشظاة).

نجد من رواية السمهودي إن المسمى أقدم من زمن ثوران البركان، ونلاحظ أيضًا اجتماع كلمتي الحبس والسد على منطقة واحدة اعلى وادي الشظاة فهل هما كلمتان مترادفتان أم أنهما متغايرتان فيكون مدلول الحبس غير السد؟

في جولة ميدانية لتوثيق منطقة الحبس في أعالي وادي شظاة تم العثور على العديد من قطع طوب الآجر، ولكنه ليس بالطوب العادي إذ يظهر بتكوين غريب يعود بناظره الى سنة 654هـ، حيث نشاهد طوب الآجر وقد امتزج مع اللابة التي سالت آنذاك وتداخلت بين ثناياه، وهناك قطع أخرى عليها اثار الحرق وكأن حرارة اللابة لم تفارقها بعد.

هذا الطوب يعد شاهدًا أثريًا ودليلًا علميًا تاريخيًا، فوجوده أثبت وجود مسمى الحبس لارتباط الاسمين معًا وخاصة أنه يقع في منطقة من فلوق الحرة يحتجز فيها الماء، وأثبت أيضًا وجود سد قديم في المنطقة قبل ثوران البركان وما هذا الطوب إلا بقاياه، وهو السد الذي ذكره ياقوت في معجمه والذي يدل على أنه صناعة بشرية، ويحتاج الأمر إلى مزيد بحث لتحديد زمن بنائه الذي ربما يعود إلى سنة 50 هـ في فترة بناء السد الأثري بوادي الخنق.

هذا السد وإن كان صغيرًا في حجمه إلا أن الطوب المتبقي منه والمتداخل مع اللابة يعتبر أمرًا مميزًا ونادرًا يثري تاريخ المنطقة ويكشف عن بعض العمارة المائية وتأثير البركان الذي قارب 800 سنة من عمره.

ولعل هذا البحث يكون قد أجاب على الأديب والمؤرخ علي حافظ في كتابه فصول من تاريخ المدينة المنورة عندما تساءل: (فهل الحوض الذي نسميه العاقول اليوم يسمى تاريخياً الحبس؟ كما أشار إلى ذلك السيد السمهودي والقسطلاني؟).

نعم الحبس هو العاقول أزاح الأخير الأول، غير ان حوض العاقول أقدم من بركان 654هـ فهناك حرة سابقة موغلة في القدم ساهم البركان الأخير في ارتفاع منسوب جوانب الحوض حيث بسط لابته على لابة سابقة، ورغم أن مسمى العاقول حديث الاطلاق إلا أن له أصل في اللغة، فالعاقول نبات معروف ولا أحسبه أصلا لتسمية المنطقة ولكن يعود إلى طبيعة وادي الخنق كثير التعرجات والمنحنيات فيطابق ذلك ما ذكره بن فارس: (قَالَ الْخَلِيلُ: الْعَاقُولُ مِنَ النَّهْرِ وَالْوَادِي وَمِنَ الْأُمُورِ أَيْضًا: مَا الْتَبَسَ وَاعْوَجَّ.).