عين الخليفة المهدي العباسي بالمدينة المنورة


السبت 2023-05-20

اشتهرت عين الأزرق التي اجراها مروان بن الحكم في عهد معاوية رضي الله عنه بالمدينة المنورة في القرن الأول الهجري والتي تسمى بالعين الزرقاء، ولكن هناك عين أخرى أجريت في العصر العباسي ومن قباء أيضا وبنفس تقنيتها وهندستها، هذه العين أجراها المهدي العباسي الذي زار المدينة سنة 160هـ وقام بتوسعة المسجد النبوي الشريف، غير أن المعلومات عن هذه العين نزيرة في المصادر التاريخية وجاءت اخبارها عرضا رغم بقاء اثارها الى القرن العاشر الهجري، وننطلق في بحثنا من كتاب المناسك لإبراهيم بن إسحاق الحربي (ت 285هـ) حيث قال:

(وبالمدينة برك وعيون، فزعم احمد بن القاسم عن محمد بن ميمون قال: بالمدينة عين تأتي من قباء من دون بئر غرس حيال مسجد قباء، وكان المهدي الذي اجراها الى بركة مسجد الفوارة التي عند مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومنها يشرب السلطان، ومن وازن المسجد، ومنها فقير في بطحان يشرب منه أهل بطحان، ومن هذه القناة بركة بالمصلى وبركة بالحناطين وبركة بالثنية، ولكل بركة من هذه البرك وجهان، وجه للرجال ووجه للنساء، غير البركة التي يقال لها الفوارة فإنها وجه واحد، والناس يستسقون من هذه البرك التي بالمدينة، ويجري ما يفيض منها وفضول ما يستسقيه الناس فيجتمع في موضع يقال له الشريعة، حوض بطرف المدينة مما يلي الثنية، ثم يمضي الماء من ذلك الموضع الى موضع يقال له بركة السوق من المدينة على أربعة اميال، وهناك للسلطان ضيعة شرابها من هذه المياه، يقبلها السلطان وهي من صوافيه وكانت بركة السوق لسليمان بن عبدالملك)    

يفيد هذا النص بما يلي:

1/ وجود عين وقناة مائية أجراها الخليفة المهدي العباسي ، وتبدأ هذه العين من قباء قبل بئر غرس ، وبئر غرس المذكورة ليست غرس الشهيرة الواقعة على ضفاف وادي بطحان ، ولكن بئر غرس المقصودة هنا هي بئر عذق التي تحول اسمها من غرس الى عذق كما صرح المؤرخ إبراهيم العياشي وكما فصلت ذلك في مقال سبق نشره عن هذه البئر.

هناك بئر تقع شمالي بئر عذق مباشرة تسمى ببئر النبي صلى الله عليه وسلم ، وبحسب وصف كتاب المناسك انها دون بئر غرس  من المرجح ان تكون هي بداية عين المهدي العباسي.

2/ من المؤكد ان هذه العين الواردة في النص هي غير عين الأزرق ، فهذه اجراها مروان وتلك اجراها المهدي.

3/ مجرى عين العباسي يخرج منها فرع ليلتقي بمجرى عين الأزرق يتضح ذلك من خلال ما ورد في بركة المصلى والحناطين والثنية وهذه كلها تقع شرقي جبل سلع ومن ملحقات عين الأزرق التي اشتقت من مجراها الأصلي قنوات أخرى في عصور مختلفة.

وننتقل الى ابن النجار (643هـ) في كتابه الدرة الثمينة في أخبار المدينة الذي قال:

( قلت: والخندق اليوم باقٍ، وفيه قناةٌ تأتي من عين بقباء إلى النخل الذي بأسفل المدينة بالسيح حوالي مسجد الفتح، وفي الخندق نخلٌ قد انطم أكثره وتهدمت حيطانه).

يثبت هذا النص ان هناك قناة مائية تأتي من عين من قباء – غير عين الأزرق - وتصل الى منطقة السيح عند مسجد الفتح غربي جبل سلع.

وظلت هذه القناة الى القرن الثامن الهجري حيث يقول المطري (741هـ) تعليقا على بن النجار:

(أما الكهف الذي ذكره رحمه الله فهو معروف في غربي جبل سلع، عن يمين السالك إلى مسجد الفتح من الطريق القبلية، وعلى يسار السالك إلى المدينة إذا زار المساجد، ثم سلك الى المدينة مستقبل القبلة، يقابل حديقة نخل تعرف بالغنيمية في بطن وادي بطحان غربي الجبل جبل سلع، وفي الوادي عين تأتى من عوالي المدينة تسقي ما حول المساجد من المزارع والنخيل تعرف بعين الخيف خيف شامي، وتعرف تلك الناحية بالسيح)  

ومن خلال ما ذكره المطري يتضح ان العين تأتي من عوالي المدينة ولا يتعارض ذلك من انها تأتي من قباء، فقباء من عواليها، ويتضح أيضا ان مجرى القناة يسير في بطن وادي بطحان في منطقة السيح غربي سلع ، ويظهر في النص اسم لهذه العين وهو خيف شامي ، وكلمة الخيف في اللغة تعني منطقة ترتفع عن الوادي وتنخفض عن الجبل أي يجتمع فيها جبل ووادي وهنا اجتمع سلع ببطحان .

وبقيت هذه القناة الى عصر السمهودي (911هـ) ولكن انقطع جريانها:

(وليست عين الخيف التي ذكرها المطري بجارية في زماننا، بل هي منقطعة، ومجراها معلوم).

وقد وقع تداخل بين عين العباسي وعين النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تأتي من أسفل كهف بني حرام غربي جبل سلع وقد اورد فيها بن النجار:

(كانوا أيام الخندق يخرجون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويخافون البيات، فيدخلون به كهف بني حرام فيبيت فيه، حتى إذا أصبح هبط. قال: ونقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العينية التي عند الكهف، فلم تزل تجري حتى اليوم.

قلت: وهذه العين في ظاهر المدينة وعليها بناء وهي مقابلة المصلى).  

والتداخل الذي حصل كان من تعليق بن النجار على هذه العين حين قال انها مقابلة للمصلى ، فعلق المطري على ذلك وكأنه ظن ان بن النجار اشتبه عليه في ذلك :

(فأما العين التي ذكرها الشيخ محب الدين المقابلة للمصلى فهي عين الأزرق، وهو مروان بن الحكم، أجراها بأمر معاوية رضي الله تعالى عنه، وهو واليه على المدينة، وأصلها من قباء المعروف من بئر كبيرة غربي مسجد قباء في حديقة نخل، وهي تجري إلى المصلى، وعليها في المصلى قبة كبيرة مقسومة نصفين، يخرج الماء منها في وجهين مدرجين وجه قبلي ووجه شمالي، وتخرج العين من القبة من جهة المشرق، ثم تأخذ إلى جهة الشمال)

والحقيقة ليس هناك تداخل ولم يشتبه على بن النجار بل اثبت نصه ان هناك قناة تأتي من عين النبي صلى الله عليه وسلم الى الموضع المذكور امام المصلى ( مسجد الغمامة ) وقد تعقبه السمهودي فقال:

(قال: وأما عين النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكر ابن النجار فليست تعرف اليوم، وإن كانت كما قال عند الكهف المذكور فقد دثرت، وعفا أثرها.

قلت: مراد ابن النجار أن أصلها عند الكهف، وأنها تجري إلى الموضع الذي عليه البناء في مقابلة المصلى، وقد وافق ابن النجار على ذلك ابن جبير في رحلته، فقال: وقبل وصولك سور المدينة من جهة المغرب بمقدار غلوة تلقى الخندق، وبينه وبين المدينة عن يمين الطريق العين المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعليها حلق عظيم، ومستدير، ومنبع العين وسط ذلك الحلق كأنه الحوض المستطيل، وتحته سقايات مستطيلات باستطالة الحلق، وقد ضرب بين كل سقاية وبين الحوض بجدارين، وهو يمدّ السقايتين، ويهبط إليها على أدراج نحو الخمس والعشرين درجة، وهما لتطهير الناس واستقائهم وغسل أثوابهم، والحوض المذكور لا يتناول منه لغير الاستسقاء خاصة صونا له، انتهى).

وعاد السمهودي وعلق على المجد الفيروز ابادي في تعقبه على كلام بن النجار مشيرا الى وجود قناة تصل الى عين النبي صلى الله عليه وسلم :

(قال المجد: وبشبه أنه اشتبه عليه عين الأزرق بعين النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: اتفاقه هو وابن النجار على ذلك يبعد الاشتباه، بل يحتمل أن عين النبي صلى الله عليه وسلم كانت تجرى إلى هذا الموضع، وكذا عين الأزرق، ثم انقطعت الأولى وبقيت الثانية التي هي عين الأزرق).

والعين التي أشار اليها بن جبير ( 581هـ) وهو سابق لأبن النجار هي المنهل الواقع في الركن الشمالي الشرقي لمسجد ابي بكر الصديق رضي الله عنه وعلى الركن الشمالي الغربي لمسجد المصلى (الغمامة) والمسمى بمنهل المناخة.

وقد أشار المطري الى موضع المنهل عند حديثه عن مسجد المصلى فقال:

( ومسجد شماليه وسط الحديقة المعروفة بالعريض المتصلة بقبة عين الأزرق وهي تسقى من العين المذكورة ويعرف اليوم بمسجد ابي بكر الصديق رضي الله عنه)

ومما جاء في وصف هذا المنهل ان النزول اليه يكون من خلال درجات تبلغ خمسا وعشرين درجة وهذا القدر يعني النزول ما يقارب الخمسة أمتار.

مجرى عين المهدي العباسي:

تبدأ من البئر التي تسمى بئر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه التسمية لم أجدها في المصادر المتقدمة، غير ان بئر أريس يطلق عليها احيانا بئر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في عصور متأخرة وقد انسحب هذا الاسم الى منبع عين المهدي العباسي غير ان هذه غير تلك.

تسمى عين العباسي بعين الخيف او خيف شامي وتسير قناتها في البداية موازية لمجرى عين الأزرق، ودليل ذلك ما ورد عند السمهودي: (عين الخيف: تأتى من عوالي المدينة فتسقي ما حول مساجد الفتح، وهي متقطعة، وفقرها ظاهرة تسمى اليوم بشبشب)

وشبشب – بفتح الشينين- ظلت الى العصر الحالي حيث قال إبراهيم العياشي: (والذى علمت من الشيخ عبد الحميد العباسى أن هناك بئَّار تعرف بشبشب )

ومن خلال البحث والتتبع الميداني وجدت ان شبشب في الشمال من بئر عين العباسي مما يشير الى مسار قناة هذه العين.

تسير هذه القناة الى ان تصل منطقة السيح غربي جبل سلع في بطن وادي بطحان كما ذكر المطري ، وقد بقيت هذه القناة الى عصر السمهودي (911هـ) غير انها انقطعت ولم تعد تجري ، وتمت محاولة اجراء مائها من خلال تنظيف القناة وقد قال السمهودي: ( وليست عين الخيف التي ذكرها المطري بجارية في زماننا، بل هي منقطعة، ومجراها معلوم.

وبيّن ابن النجار بما يأتي عنه في الخندق أنها تأتي من قباء، وأصلها فيما يقال معلوم غربي قباء، وقد شرع في إجرائها متولّي العمارة الجناب الشمسي ابن الزمن، فتتبّع قناتها إلى أن آل إلى الموضع الذي يقال إنه أصلها، ثم بالغوا في تنظيفه فلم يجر).

والشمسي بن الزمن (897هـ) كان متولي عمارة المسجد النبوي الشريف وقام بتجديد مسجد قباء والعين الزرقاء، وكذلك تجديد عين الخيف غير انها لم تجر.

تتصل قناة المهدي بقناة عين النبي صلى الله عليه وسلم في منطقة مساجد الفتح ولعل هذا الاتصال كان سببا في تسمية منبع عين العباسي ببئر النبي صلى الله عليه وسلم.

- أجرى المهدي العباسي هذه القناة لتزويد منطقة مساجد الفتح بالماء سقيا لسكانها وريا لبساتينها حيث ان قناة الأزرق لا تصل لهذه المنطقة.

من خلال ما سبق من حديث عن عين المهدي العباسي ومقارنة بعين الأزرق في تقنيتها المائية المتمثلة في دبولها وفقارها ومناهلها ينكشف سر الصهريج الواقع تحت مسجد ابي بكر الصديق رضي الله عنه في منطقة مساجد الفتح فما هو الا أحد مناهل عين المهدي العباسي تمثلت في بركة يساق اليها الماء من دبل العين عبر قناة حجرية.