هناك العديد من الأودية التي تسيل في أرض المدينة المنورة ما بين اودية تأتيها من خارجها كالعقيق وقناة، وبين أودية تنصب من حرتها الجنوبية التي تسمى حرة معصم العليا، ولعل تسمية هذه الحرة وما يسيل منها تشبه معصم اليد وأصابعها، وقد جمعت هذه الأودية مرتبة من الشرق إلى الغرب في بيتين من الشعر:

في دار خير الخلق أودية لها ... ذكر على مر الزمان وثيق

فقنـاة مـهزور كـذاك مـذيـنب ... بطحـان رانـوناء ثـم عقيـق

هذه هي الأودية الرئيسية بالمدينة المنورة والتي تناولتها المصادر التاريخية بشيء من التوسع والتفصيل، غير أن هناك بعض الأودية الصغيرة تمت الإشارة إليها دون بسط القول فيها، فطواها النسيان ولم تعد معروفة على أرض الواقع، وليس لها ذكر إلا في بطون الكتب، ومعظم هذه الأودية الفرعية هي روافد للأودية الرئيسية تجتمع وتلتقي بها.

من هذه الأودية وادي يسمى (ذو خصب)، ورد ذكره كأحد روافد وادي الرانوناء في رواية المحدث المؤرخ بن شبة: (... ثُمَّ يَسْتَبْطِنُ الْقَصَبَةَ حَتَّى يَعْتَرِضَ قُبَاءً يَمِينًا، ثُمَّ يَدْخُلُ غَوْسَاءَ، ثُمَّ بَطْنَ ذِي خَصَبٍ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ مَا جَاءَ مِنَ الْحَرَّةِ وَمَا جَاءَ مِنْ ذِي خَصَبٍ، ثُمَّ يَقْرُنُ بِذِي صُلْبٍ، ثُمَّ يَسْتَبْطِنُ السَّرَارَةَ حَتَّى يَمُرَّ عَلَى قَعْرِ الْبِرْكَةِ.... تاريخ المدينة لابن شبة).

في هذه الرواية نجد أن اسم المنطقة الواقعة جنوب غرب قباء والتي يمر بها الرانوناء تصحف من العصبة إلى القصبة، وكذلك وقع تغير في اسم غوساء فتحول إلى غوسا، وقد أشار المؤرخ السمهودي إلى ذلك فقال:

(وغوسا غير معروفة، ولعله أراد حوسا- بالحاء المهملة- وهي معروفة بقباء، ويشرب من رانونا، ووقع في الاسم تغيير، اه. وقال نصر: عوسا قريب قباء)

وعوسا قد ورد ذكرها في أحداث غزوة الخندق عند الواقدي وأنها بقباء: (فَكَانَ هِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ يَقُولُ: أَقْبَلْت فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي وَبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَقَدْ نَكَبْنَا عَنْ الْجِسْرِ وَصَفْنَةَ فَأَخَذْنَا على قباء، حتى إذا كنا بعوسا...إلخ) 

وعوسا هي مزرعة كانت قائمة إلى عهد قريب شمالي مسجد قباء يفصلها عنه طريق الهجرة، وظلت المنطقة محتفظة باسمها مع تصحيف أخر طرأ عليها فكانت تسمى حوسان.

 أما وادي ذو صلب فيأتي من شرقي مسجد قباء متجهًا إلى موضع مسجد الجمعة والذي يسمى الغبيب حيث يلتقي فيها بوادي الرانوناء.

واذا رجعنا إلى رواية بن شبة سوف تتضح لنا الصورة بشكل جلي، فوادي ذو خصب سوف يصب في الرانوناء في المنطقة الواقعة بين غوسا وبين ذي صلب الذي به مسجد الجمعة، وأكد ذلك في قوله باجتماع ما جاء من الحرة وما جاء من ذي خصب والتقائها بذي صلب، والحرة المقصودة هي الحرة الواقعة شرقي الرانوناء والتي بها المنطقة التي تسمى اليوم بالدويمة، ولا حرة بهذه المنطقة سواها.

في هذه الحرة يقع جبيل صغير أحمر اللون يأخذ شكل القوس يسمى جبل الكوفية، وهي تسمية محلية متأخرة لا وجود لها في مصادر تاريخ المدينة، ولا أعلم سبب اطلاق هذا الاسم على الجبل فلربما كان له صلة بما ورد في معاجم اللغة: ([كوف]: الكوفَةُ: الرملة الحمراء، وبها سمِّيت الكوفَةُ. وكَوَّفْتُ تَكْويفًا، إذا صرتَ إلى الكوفة. وإنَّه لفي كوفانٍ، أي في حِرْزٍ ومَنْعَةٍ. ويقال: تركهم في كوفانٍ، أي في أمر مستدير، ويقال في عناءٍ ومشقَّة ودوَران. وتَكَوَّفَ الرملُ والقومُ، أي استداروا. وتَكَوَّفَ الرجلُ، أي تشبَّه بأهل الكوفة أو تَنَسَّبَ إليهم - منتخب من صحاح الجوهري).

من يقف عند هذا الجبل سيجد قاعًا واسعًا في شماله الشرقي، ورغم أن العمران قد بسط يده فيه إلا أنه واضح الانحدار جدًا، وهناك أثر مجرى من هذا القاع يتجه شرقًا إلى الرانوناء وإلى ذي صلب يخرج إليهما من شمالي مزرعة الجزع.

وعند زيارتي للجبل وجدت على صخوره العديد من الكتابات التي تعود إلى العصور الإسلامية المبكرة لتدل على الحيوية الزراعية لهذا الوادي الذي كان لاسمه منه نصيب، ومنها نقوش لرجل اسمه عون بن أيوب، الذي سطر أيضًا اسمه على جبل سلع بالمدينة، كما وثقه الأستاذ محمد المغذوي، وتكرار هذا الاسم بين الجبلين -وربما في مواضع أخرى في المدينة- يدل على أنه مدني على أننا لم نظفر بترجمة له.

وتشابه الأسماء أحيانًا يكون مظنة للوهم والخطأ، فقد ورد عند ياقوت الحموي في معجمه: (خَبءٌ: بسكون الباء، والهمزة: واد بالمدينة إلى جنب قباء، وقيل: خبء، بالضم، واد منحدر من الكاثب ثم يأخذ ظهر حرّة كشب ثم يصير إلى قاع الجموح أسفل من قباء. وخبء أيضا: موضع نجديّ).

لست أشك ان خبء الواردة هي تحريف وتصحيف لذي خصب أن كان المقصود المدينة المنورة وقبائها، وإلا فالأمر هو خلط وقع بين قباء المدينة المنورة وبين قباء الواقعة شمالي حرة كشب وهي مورد ماء على طريق المتجه من ضرية إلى مكة المكرمة كما ذكر أبو علي الهجري ولا تزال إلى اليوم.

ختامًا: أقول لجبل الكوفية: هلا خلعت هذا الاسم عنك وارتديت اسم ذي خصب كما ارتداه واديك وحرتك التي تتربع بها؟