|
|||||||
كأي لحظة عادية كنت فيها أقرأ القرآن في وقت متأخر من الليل استوقفتني آية [204] من سورة البقرة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ أثرت فيني الكلمات، وبدت لي الآية وكأني اسمعها لأول مرة في حياتي، منذ صغري وأنا أقرأها وما حركت فيني شيئاً ورغم أن معناها واضح وتفسيرها لا يحتاج علاّمة أو مفسراً، إلا أنني اقرأها وكأني للمرة الأولى أفهم معناها وأستشعر مفرداتها، فلطالما ظننت خيراً في كل الناس ولطالما ترجمت الابتسامة قلباً طيباً والكلمة الحسنة مودةً ونقاءً، والعون حباً وتقرباً، ورغم أني أعلم بأن ليس كل الناس خيرون إلا أنني لم أستوعب ذلك حقيقة، ولم أستخدم هذه الآية في تتبع علاقاتي وتفحص مجتمعي الذي منه استمد انسي وسلواني حتى صادفت من جعلوني أفهم وأدرك وأرى بوعي. كي نفهم بعض الكلام ونستوعب بعض المفردات نحتاج إلى مقومات واضحة ومناسبة للكلام، نحتاج إلى خبرة في الحياة، نحتاج إلى التجارب والمواقف التي تؤهلنا للفهم والاستيعاب، هي تجمعات الوعي ما تجعلنا ندرك بعض الأشياء والمواقف، تماما كما نسمع الكثير من النصائح من الآخرين، ونضربها عرض الحائط وكأننا لم نسمع شيئاً مما يقولون، ولم نعي بما كانوا هم يهذون، ثم تأتي لحظات الوعي والفهم المتعلقة بالنصيحة القيمة التي جهلناها سابقاً فتبدو لنا دقيقة و واضحة تماما كوضوح الشمس. أب ينصح ولده مراراً تكراراً، والولد ساهي ولاهي ولا يسمع كلام والده ولا يعطي له أي أهمية، ثم تأتي التجارب والمواقف وتبرهن له صدق كلام والده، ويتذكر نصائحه وكأنه يسمعها للمرة الأولى، وقد يستغرب البعض من جهلهم بها آنذاك، والسبب الحقيقي خلف ذلك هي أنهم لم تكن لديهم بعد المقومات اللازمة لفهم النصيحة، ولم تكن لديهم التجربة والوعي المتطلب لإدراك الغاية من النصيحة وما إن يمتلكون ذلك حتى تغدو تلك النصيحة واضحة ومفهومة بالنسبة لهم، حتى الكلام يحتاج إلى مقومات لفهمه ولتفسيره؛ فعلى الرغم من أننا نسمع كل ما يقال إلا أنه ليس بالضرورة يصل إلى أذهاننا، وليس كل ما يقوله الآخرون حصراً يكون مفهوماً رغم وضوحه وبساطته إذ أننا لسنا مستعدين بعد لتلقيه وللعيش به. هي لحظة الإدراك ما توضح كل شيء وتجعله جلياً ومفهوماً، ولحظة الإدراك تلك تتطلب المواقف والتجارب والوعي والمعرفة وفي بعض الأحيان الكثير الكثير من الملاحظة والرغبة بالتغيير. حينما كنت في عمر السادسة كنت أقرأ في كتاب ولم أستطع القراءة فجريت إلى والدي طلباً للمساعدة للمرة الأولى والأخيرة في حياتي، وسألته آنذاك أن يقرأ لي فقال: ولكنك تستطيعين القراءة قلت: لا، لا أستطيع ثم طلب مني أن أهجئ الأحرف ومن ثم أنطق بالكلمة ونجحت، ثم قال لي عبارة فهمت أولها وعجزت عن فهم آخرها حينها: " أرأيتي، أنت بالفعل تستطيعين؛ اعتمدي على نفسك واياك والحاجة إلى الآخرين حتى لو كان والدك" بقيتُ سنوات طويلة جاهلة لمعنى كلامه وظننت أنه فقط لا يرغب بمساعدتي إلى أن خضت بعض التجارب واعتمدت على آخرين في أشياء كان بمقدوري فعلها بنفسي، وخاب ظني في الكثير، وحملت معي ألماً تجاه البعض إلى أن فهمت كلام والدي ذاك، وأصبحت اعتمد على نفسي في كل شيء بمقدوري فعله بنفسي، ومن حينها خفضّت سقف توقعاتي بالآخرين، عففت نفسي عن طلب العون في أشياء أستطيع فعلها بنفسي، وتضاءلت خيباتي وتحسنت علاقاتي وما عدت أحمل بغضاً أو ألماً تجاه أي مخلوق قريبا مني كان أو بعيداً. وبنفس المبدأ يكون التواصل والحوار بين الأفراد ففي بعض الأحيان يكون كلام بعض الناس مفهوما وواضحاً إلا أن اختلافهم في الثقافات أو المبادئ أو المفاهيم أو المعتقدات يكون سببا في خلق الكثير من التفاوت وسوء الفهم وعدم وصول أبسط الرسائل وعدم فهمها من الطرف الآخر، والفارق هنا هو الاختلاف في العقليات ومدى جاهزية الطرف الآخر بكل المقومات السابقة لفهم تلك الرسائل الواضحة من الطرف الأول. وقد تكون هذه الأطراف آباء وأبناء، أو أزواج أو أصدقاء أو حتى زملاء عمل. أما فيما يتعلق بمعضلة الفهم والاستيعاب فلا حل سوى الوعي، ومحاولة تقريب المسافات الفكرية سواء بين الأجيال أو الأزواج أو الثقافات المتنوعة قدر المستطاع، وبدلا من إصدار الأحكام واتخاذ خطوات مصيرية مبنية على سوء الفهم الأرجح التريث والاستفسار من الطرف الآخر عن الأسباب والمقصود، وتحري لحظة الإدراك التي حتما ستزيل اللبس وتمنع الغيوم من حجب صفاء السماء. |