غمض عين وقفل أذن


الأربعاء 2022-01-05

من دهاليز المدينة (7)

استراتيجية النبلاء في التعامل مع معتركات النفوس، وهو مهارة وفن ودلالة على الفطنة، فثقافة التغافل منهج راق في التعاملات، فلا يصلح العلاقات ولا يديمها إلا التغافل.


وبالنظر في ديمومة العلاقات واستمرارها نجد أننا في تعاملاتنا مع الآخرين لسنا بحاجة لحمل عدسةٍ مكبرةٍ للتنقيب عن تصرفاتهم، أو تفسير كلماتهم فوق احتمالاتها ومدلولاتها، أو تأويل تصرفاتهم حسبما تمليه علينا أمزجتنا، وكم من انتصار للنفس كان سببًا من أسبابِ هدمِ جسور العلاقات.


ولعلنا نستندُ في تغافلنا عن الآخرين على رصيدهم من المواقف الإيجابية الشافعة "إنه قد شهد بدرًا"، وقد نستند على رصيد القلوب ففي قصة شارب الخمر قال الحبيب ﷺ: "لا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ ما عَلِمْتُ إنَّه يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَهُ"، وقد نعولُ على ما يأتي ففي قصة الطائف قال سيد الخلق ﷺ: "بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا".


وما أجمل أن يكون حسنُ الظنِ هو قاعدتنا في تفسير تصرفات الآخرين جاء في حلية الأولياء: "إذا بلغكَ عن أخيك شيءٌ تكرهُه فالتمسْ له العذرَ جهدَك، فإنْ لم تجدْ له عذرًا فقلْ في نفسِك: لعلَّ لأخي عذرٌ لا أعلمُه"، وقديمًا قالوا: "من جعل لنفسه من حُسْن الظَّن بإخوانه نصيبًا، أراح قلبه"، وقال الخليل بن أحمد: "يجب على الصَّديق مع صديقه استعمال أربع خصال: الصَّفح قبل الاستقالة، وتقديم حُسْن الظَّن قبل التُّهمة، والبذل قبل المسألة، ومخرج العذر قبل العتب".


إن القوة الهادئة من نواتج التغافل فمعيار القوة حدده لنا الحبيب ﷺ حين قال: "ليسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ".


وأخيرًا: كم من قلوب تحتاج إلى دفء كلماتنا، وكم من أعين تحتاج إلى رأفة مشاعرنا، وكم من آذان تتشنف لدعمنا، وكم من علاقات تحتاج لأن نغلق الأعين عن الزلات، فكسب القلوب أولى من كسب المواقف، وكما قال الأولون غمض عين وقفل أذن.