المدينة بين الكم والكيف


الجمعة 2021-12-24

في نقاش مطول مع أحد الأصدقاء عن المدن وتعريف المدن لدينا، وأنه لا يوجد تعريف واضح للمدينة، وأن المشكلة في تقديم الخدمات والمرافق للمدن لدينا يكون على أساس تصنيف المدينة، فكان لابد من توضيح ان هناك أكثر من تعريف للمدينة ولكل وجهة نظر مختلفة، وبالتالي لم يتم التوصل الى تعريف موحد للمدينة وكذلك الحال بالنسبة للقرى، كما ان هناك اجتهادات تهدف الى تقريب وجهات النظر حتى يمكن للمتخصصين التعامل مع المدينة والقرية.

ويمكننا هنا ان نعرف المدينة (والجمع: مُدُن ومَدَائِن) على انها مستوطنة حضرية ذات كثافة سكانية كبيرة، ولها أهمية معينة تميزها عن المستوطنات الأخرى.

(ولا ننسى ان تعريف المدينة يختلف من مكان إلى آخر ومن وجهة نظر إلى أخرى)، وبما ان حياة الناس في بادئ الأمر كانت قائمة على الترحال والصيد، ثم تطورت بعد أن بدأ الإنسان بالزراعة إلى تجمعات سكانية مستقرة حول مصادر المياه، وبدأت هذه التجمعات بالنمو والتشعب والتطور تدريجيًا حتى أصبحت مستوطنات مكتظة بالسكان مما أدّى إلى وجود حاجة ملحة إلى تنظيم هذه الحشود التي تجمعت من أجل العمل في مكان واحد وهو ما يسمى بالمدن؛ ثم ساهمت الثورة الصناعية في انتقال نسبة كبيرة ومتزايدة من السكان إلى المدن وبالتالي تشكيل المزيد من المدن، واصبح لدينا ما يُطلق عليه التحضُّر. 

والمدن لم تبدأ كما نراها اليوم بضخامتها واكتظاظها، إنما تشكلت ونمت وتطورت على مر الفترات والعقود، الأمر الذي ادى إلى ظهور مفاهيم عديدة عن تعريف المدينة وتطور هذه المفاهيم مع الزمن، فقد كانت الفكرة الأولى عن المدينة أنها يجب أن تؤدي وظائف تجارية؛ فتجمع سكاني بلا اقتصاد ولا تجارة لا يمكن اعتباره "مدينة" وبقي هذا المفهوم قائمًا حتى قام ماكس ويبر بتقديم خمس سمات تعرّف المجتمع الحضري حيث يجب أن تمتلك المدينة ما يأتي: 

1- التحصين والحماية. 

2- مراكز تجارية.

3- رمز قانوني ونظام قضائي ذاتي. 

4- جمعية من المواطنين تنسق التعامل مع البلدية. 

5- الاستقلال السياسي الكافي للمواطنين في المناطق الحضرية لاختيار حكام المدينة. 

فما إن توفرت هذه السمات في أي مجتمع حضري يستحق أن يُطلق عليه اسم "مدينة" ، ومن هناك بدأ ظهور نظريات عدة للمدينة ولأشكالها، حتى قام كيفن لينش باقتراح نظرية لصورة المدينة تحدد خمسة عناصر تجعل المدينة مقروءة أو يمكن تخيلها، بعد ذلك أظهرت العديد من الدراسات أن بعض عناصر المدينة لا تنسى أو يمكن تخيلها ليس بسبب تحفيزهم البصري إنما لأن لديهم بعض المعاني الشخصية أو التاريخية أو الثقافية العائدة للشخص نفسه، وتتكون صورة المدينة من عناصر خمسة هي:

1- المسارات والطرق: وتتضمن الشوارع والأرصفة وممرات عبور المشاة.

2- المناطق: وتشمل الأحياء ذات الجو العام المشترك. 

3- العُقد: وهي الأماكن التي يتجمع فيها الناس لكونها لافتة للنظر أو غيره كالحدائق والأسواق المركزية. 

4- المعالم: وتكون معروفة على مستوى عالمي كالمناطق الأثرية وبرج ايفيل وما يشابههم. 

5- الحواف: وهي ما يحد الموقع من الأطراف، وقد تكون الحافة طبيعية كغابة شجرية أو مجرى نهر، وقد تكون حدودًا إدارية.

ولقد ادي التطور المستمر للمدينة والتوسعات السريعة لها الى ظهور المدن المتخصصة مثل (المدينة الصناعية والمدينة التجارية والمدينة الطبية والمدينة العسكرية .... الخ) ومع دخول التكنولوجيا على المدن ظهرت المدن المستدامة والمدن الذكية ولتعريف المدن اسس كثيره منها ما هو معتمد على أساس التصنيف السكاني أو الديموغرافي كما تعرف المدن على الأساس الاقتصادي أو تعرف المدن على الأساس الإداري أو الأساس التاريخي أو الأساس الشكلي).

ولأن موضوعنا عن المدن وعن الكم والكيف بالمدن فما هو الذي نقصده بالكم والكيف ؟

الكم ويقصد به التخطيط الفيزيقي (المادي) (ولان التخطيط دائما يهتم بالعدد والتوزيع وشكل المدينة ونوعها وطريقه التعامل مع الخدمات والمرافق والقاعدة الاقتصادية التي تقوم عليها المدينة وربطها بالاستراتيجيات والتعامل مع احتياجات المستقبل).

الكيف ويقصد به التخطيط التنموي وطبيعته (ولان التنمية دائما تهتم بوضع الأسس التي يجب العمل عليها لتحقيق التخطيط ووضع الجودة التي على أساسها تقوم تنفيذ التخطيط الموضوع وطريقة الاستمرارية والاستدامة لها).

ومثال على ذلك مدينتي القاهرة ودبي فنجد ان مدينة القاهرة (والتي تهتم بالكم على حساب الكيف) فنجد ان هناك العديد من المشاريع التي تتسم بسرعه التنفيذ ومحاولة تقديم الخدمات والمرافق في اقل فترة زمنية ممكنة وبالطبع يأتي ذلك على حساب مستوى الجودة والاستمرارية، اما مدينة دبي فنجدها تنظر (للكيف قبل الكم) فعند استحداث أي مشروع نجد ان الاهتمام بالأمور المتعلقة بالجودة والمعايير والمقاييس والتأكد من الاستمرارية بنفس المستوى وبنفس الجودة التي بدء فيها المكان تأتي في المقام الاول.

ومن هنا يتضح اهمية مراعاة التوازن بين الكم والكيف عند تخطيط المدن حيث يجب الاهتمام بكليهما عند وضع التخطيط الحالي والمستقبلي للمدينة بصورة تراعي:

1- معرفة تصنيف المدينة (حسب الاستراتيجية المدروسة)

2- وضوح قاعدة الاقتصادية القائمة عليها المدينة

3- ربط المدينة بشيكه طرق واضحة ومرتبطة بالإقليم

4- شكل واضح للمدينة 

5- تحديد المعايير والمقاييس والجودة التي تقوم عليها المدينة

6- الخطط التنموية التنفيذية لخدمات ومرافق المدينة 

7- العمل على ايجاد شكل واضح للمنظر الحضري والتصميم العمراني للمدينة تؤدي الى هويه عمرانية منفردة ومميزة للمدينة 

8- وضح خطط للاستمرارية (صيانة وتشغيل للمدينة)

9- الاخذ في الاعتبار التطور السريع للتكنولوجيا (المدن الذكية)

10- هذا مع الاخذ بعين الاعتبار موقع المدينة والحالة الاجتماعية والاقتصادية للسكان والعمل على نمو اقتصاد المدينة وتحقيق تنمية مستدامة لها.

هنا قد نجد ان معظم المدن لدينا لا تخذ بعين الاعتبار هذه النقاط لذا نجد الاختلال واضح في معظم مدننا بجميع مستويتها واشكالها مما أدى الي ارتفاع تكاليف تقديم الخدمات والمرافق وهدر عالي وعدم الاستفادة القصوى من القاعدة التي تقوم عليها المدينة.