(رؤية) أعادت لنا البصر


الجمعة 2021-12-10

بالأمس القريب دُعيت من جمعية (رؤية) للمكفوفين للمشاركة في تجربة فريدة من نوعها وتكمن في (تحدي الظلام) الفكرة غريبة بعض الشيء ولكنها ثرية في المضمون، وقد تكون التجربة قاتمة بعض الشي ولكن تحمل في طياتها رسائل خفيه للنفس.

بدأتُ التجربة في وضع غطاء من القماش على عيني بحيث لا استطيع رؤية أي شي سوى الظلام الداكن من جميع الجهات، وأيقنت أنني لن استطيع الحراك وخاصة أنني أخوض التجربة للمرة الأولى، أدخلوني المكان وهما يمسكان بي من الجهتين حتى لا أقع، حتى وصلت إلى مكانٍ مظلمٍ، لا ضوء فيه يذكر، وبالكاد استطعت الجلوس على المقعد بمساعدة منسوبات الجمعية، وبدأت اشعر بالعتمة وكأني في داخل سرداب مظلم دون بداية أو نهاية، أو بداخل كهف مظلم لاشي فيه يوصف سوى الظلام  الدامس، توترتُ كثيرًا وكنتُ ارجف خوفًا، وكأني أغرق في ذلك الظلام، وكنت أنتظر بلهفة شديدة في أن أنتزع الغطاء عن عيني لأرى النور.

وبعد برهة طلبوا مني نزع الغطاء عن عيني ورأيت النور، فأجهشت بالبكاء وحمدت الله كثيرًا على نعمة البصر، وفي المقابل عرفت شعور الكفيف الذي انتابني لدقائق والذي يعيش فيه الكفيف طوال الدهر، فالشعور لا يوصف، ومدى الإحساس لا يحكى ولا يسرد، وأيقنت أننا بحاجة إلى حمد الله كل يوم مئات المرات على نعم كثيرة نسينا أن نذكرها ونشكر الله عليها، نرى النور ولكن نعيش في عتمة الغفلة عن شكر النعم، وآمنت أننا ومهما تكابدنا أحزانًا في هذه الحياة فنحن في رحمة من الله وفي رغدٍ من العيش، فلا يعرف نعمة النور سوى من عاش الظلام، فتلك التجربة أعادت لي البصر في رؤيتي للنعم بقالب جديد.

قد يفقد الكفيف بصره ولكن الله سبحانه وتعالى عوضه ببصيرة حاضرة، وإحساس لكل شي حوله، وإدراك كبير لواقعه، فها هو التاريخ يكتب بماء الذهب لمن فقدوا بصرهم ولكنهم سطروا النجاحات ووصلوا لقمة المجد.

 فمن لا يعرف الإمام الترمذي صاحب (سنن الترمذي) حيث كان رحمه الله كفيفًا ولكن أوتي من العلم والأخلاق ما جعله من كبار علماء الحديث .

والشيخ العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله الذي كان مفتي عام السعودية ورئيس عام هيئة كبار العلماء بالإضافة إلى مناصب أخرى فكان كفيفًا لا يرى النور ولكن كان يراه في قلبه وروحه.

 وشاعر الحكماء أبو العلاء المعري الذي كان كفيفًا ولكن كان يسطر أعذب الشعر وأجمله، وكذلك الأديب العربي طه حسين أحد كبار المفكرين العرب كان لا يرى سوى الظلام ولكن مجلداته كفيلة بأن توقد لنا النور في عتمة أفكارنا، والفنان التشكيلي التركي (أشرف أرمغان) الذي أدهش العالم برسوماته فهو لم يرى النور قط وولد كفيفًا ولكن يرسم بعقله وقلبه ومشاعره واحاسيسه وتتميز لوحاته بتناسق الألوان والتفاصيل الدقيقة.

 وها هي (بن هاوتسي) إحدى الفتيات الصينيات التي ولدت لا ترى النور ولكنها استطاعت أن تنجح في أن تتخصص بمجال غريب وهو هندسة الطيران بالرغم من كونها لا تبصر ولكنها ترى ما لا يراه المبصرون، وكثيرون مثلهم فقدوا حاسة واحدة ولكن انهالت عليهم الاحاسيس والتبصر والرؤية الثاقبة وحولوا الظلام إلى طريقٍ من نور.

( أشعل شمعة بدلاً من أن تلعن الظلام).