|
|||||||
كما لا يخفي على أحد فإن من أهم ما لاحظناه مؤخرًا هو عدم استعدادات المدن للتعامل مع الكوارث البيولوجية، فلقد أظهرت جائحة كورونا الحاجة الماسة لأخذ موضوع الحروب البيولوجية بعين الاعتبار، لما له من انعكاسات تتعلق بتغير التركيبات (الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية ...إلخ) ولو عُدنا للتاريخ نجد أن هذه الحروب ليست بجديدة بل كانت تستخدم منذ القدم حيث كان يتم تلويث الأغذية والمياه في الحروب، وتطور الأمر على مر العصور إلى استخدام الفيروسات في نشر الأوبئة بين السكان، وتصنف العوامل البيولوجية التي يمكن استخدامها في الحرب البيولوجية إلى الكائنات الدقيقة مثل البكتيريا والفيروسات والفطريات والسموم الجرثومية وناقلات العدوى من الحيوانات وغيرها. وكما قال الكاتب محمد عبدالرحمن إن هناك 7 أوبئة قبل كورونا اعتقد العالم أنها نهاية البشرية في المائة سنة الأخيرة، فقد شهد العالم العديد من الأمراض والأوبئة التي جاءت وكأنها هي آلة الموت التي تحصد الأرواح بلا حساب، وكان لكل وباء من تلك الأوبئة حالة خاصة، جعل البشر يشعرون أكثر وأكثر بنهاية العالم، ومن هذه الأوبئة التي ضربت العالم خلال المائة عام الأخيرة: - وباء الكوليرا السادس: 1899 – 1923: حيث أودى وباء الكوليرا بين عامي 1902-1904 بحياة 200 ألف شخص في الفلبين كما قتل أكثر من 800 ألف شخص في الهند. - الأنفلونزا الإسبانية: انتشرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى في أوروبا والعالم وخلفت ملايين القتلى. - انفلونزا هونغ كونغ: أدى الفيروس إلى وفاة أكثر من مليون شخص، منهم 500 ألف من سكان هونج كونج نفسها، أي ما يقرب من 15% من سكانها في ذاك الوقت. - سارس: ظهر "سارس" في أواخر عام 2002 في الصين، ووصف الخبراء "سارس" بأنه أول وباء في القرن الـ 21، إذ انتشر في 29 دولة. - انفلونزا الخنازير: انتشر وباء انفلونزا الخنازير في عام 2009، وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام 2010 عن وفاة 18 ألف شخص جراء الوباء. - الملاريا: تعتبر الملاريا من الأمراض الحموية الحادة، ورغم الجهود لا تزال تعاني نحو 90 دولة حول العالم من استمرار التهديد بالإصابات، وبلغت حالات الوفاة لعام 2016 فقط لأكثر من 200 مليون شخص. - إبولا: ومات من جراءه أعداد تقدر بأكثر 25 ضعف ممن ماتوا في الأزمات الماضية منذ 40 عاما. وبصرف النظر عن مصدر هذه الأوبئة أو أسبابها أو المستفيد منها، ومع أن وباء كورونا هو الأشرس حتى الآن إلا أن القادم سوف يكون أخطر ولا بد من عمل احتياطات احترازية من هذه الأوبئة، لأن فالأمر جِدِّي خطير وعواقبه وخيمة إذا لم يكن هناك استعداد تام لمواجهته. في السابق كانت المدن تتحصن بأسوار عالية فعند وجود مرض او أي وباء كانوا يخرجون المرضى خارج أسوار المدن لتقليل تفشي المرض بين السكان، أما الآن فالمدن مفتوحة والأوبئة تتفشى بين السكان، "فهل المدن جاهزة لمواجهة هذه الحروب؟"، وهل المعايير والأسس التخطيطية المعمول بها حاليًا تمكن مدننا من تلبية متطلبات تلك المواجهة؟ وتساعدها على أن تحمي نفسها من أي جائحة؟ وهل يمكن أن يكون التخطيط عاملًا يؤدي إلى تخفيف سرعة انتشار الأمراض والأوبئة مع عدم الإخلال بالقدرة على تقديم الخدمات والمرافق للسكان؟ وللإجابة على هذه التساؤلات دعونا نستعرض سويًا محورين مؤثرين في نجاح المواجهة. المحور الأول: يتعلق بمعرفة كيفية الاستجابة لتفشي المرض. يجب أن تكون احتياجات المرضى والمناطق المتأثرة في قلب أي استجابة للأوبئة لضمان أن تكون فعالة، نظرًا لأن الاستجابة السريعة يكون لها أغلب الأثر على عدد الأشخاص الذين يصابون بالمرض والذين يموتون بسبب المرض، حيث يتطلب تفشي الوباء انتشارًا سريعًا وكبيرًا للخدمات اللوجستية، والتي يمكن أن تتراوح بين وضع مرافق مؤقتة لعلاج المرضى، أو تحسين المياه والصرف الصحي للمساعدة في منع انتشار المرض، أو بمعنى آخر، هل المعايير والأسس المعمول بها في تخطيط وتصميم مواقع وأحجام الخدمات والمرافق تدعم هذا التوجه أم أنها تحتاج إلى إعادة نظر (تم تناول هذا الموضوع بالتفصيل في مقال آخر منشور بعنوان كورونا (كوفيد – 19) والمدن). المحور الثاني: يتعلق بالتعرف على العلاقة بين الأرض والسكان وانعكاس ذلك على انتشار المرض. من المعروف أنه كلما كانت الكثافات السكانية مرتفعة (أي أن عدد السكان المتواجد في مساحة محددة مرتفع) كلما كان انتشار الأوبئة أسرع وكانت هناك صعوبة أكبر في التحكم في سرعة الانتشار، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن ارتفاع الكثافات السكانية يتطلب توفير خدمات ومرافق تركز وتنوع أعلى، وبالطبع يكون العكس صحيح في الحالتين. فعند النظر للدول ذات المساحات الصغيرة مثل: البحرين – اليابان – معظم دول أوروبا ...إلخ، نجد أن مساحات هذه الدول صغيرة مقارنة بعدد سكانها فيتم اللجوء إلى زيادة الكثافات من خلال استخدام الفراغات العلوية للأرض (زيادة عدد الأدوار والارتفاعات) وهنا نجد أن احتمال خطر انتشار الوباء يكون أكبر وأسرع بين السكان. أما بالنظر للدول ذات المساحات الكبيرة مثل: السعودية – كندا – أستراليا ...إلخ، نجد أن الأرض واسعة وعدد السكان قليل فيتم استخدام الكثافات المنخفضة أو أقل من الكثافة المتوسطة، وهنا نجد احتمال خطر انتشار الوباء يكون أقل بين السكان، أي أنه من خلال تحديد عنصرين أساسيين (السكان والأرض) ومن خلال التعامل معهما بفكر غير تقليدي يمكننا استخدام التخطيط كخط دفاع أول في مواجهة أي حرب بيولوجية أو جائحة تواجه المدن. وبما أننا نعمل اليوم بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية لإيجاد مدن صحية من حيث البيئة وحركة المشاة والمناطق الرياضية، فيجب البدء في مراجعه دقيقة للمعايير التخطيطية للكثافات السكانية والخدمات الصحية وتوزيعها بين الكثافات العالية والكثافات المنخفضة، وعمل خطط استراتيجية لمواجهة الحروب البيولوجية القادمة أو لمواجهة انتشار الأوبئة -لا سمح الله- في المستقبل وكيفية السيطرة عليها. لذا يجب أن يُبدأ الآن بإعداد دراسة خاصة لمراجعة المعايير التخطيطية للمدن وعلاقتها بالمعايير الصحية والأخطاء التي تم رصدها في مدننا مع جائحة كورونا، ووضع خطط مستقبلية لأي وباء قادم للوصول إلى معايير تخطيطية مستقبلية لمدننا تحمينا قدر المستطاع من أي وباء. |