المدينة والجائحة، الفرص السانحة


الأحد 2020-05-03

هناك نظريات تخطيطية كثيرة ومختلفة في مجال تخطيط المدن تعني بوضع أفكار يجتهد المخطط الناجح في إعادة صياغتها لتلائم للمدينة التي يتعامل معها، والمقصود هنا هو تخطيط المدينة وليس تصميمها، وبمعني أدق المعايير والأسس التخطيطية الواجب مراعاتها عند التعامل مع المدينة كوحدة واحدة حيه تؤثر وتتأثر بما حولها من معطيات ومتغيرات ومستجدات وما يتبع ذلك من تغير في بعض المفاهيم التخطيطية.

وكما لا يخفي على أحد فان من أهم ما استجد علينا مؤخرًا هو موضوع جائحة فيروس كورونا. فهل المعايير والأسس التخطيطية المعمول بها حالياً تمكن مدننا من تلبية متطلبات تلك المستجدات وبالصورة التي تساعد المدينة على أن تحمي نفسها من أي جائحة؟ وهل يمكن أن يكون لتخطيط عاملاُ يؤدي الى تخفيف سرعة انتشار الأمراض والأوبئة مع عدم الاخلال بالقدرة على تقديم الخدمات والمرافق للسكان؟

وللإجابة على هذه التساؤلات دعونا نستعرض سويًا عملية التخطيط وكيف أنها عملية تكاملية بين عدة مستويات حيث يمثل المستوي الوطني أعلى تلك المستويات مروراُ بالمستوي الإقليمي ثم شبه الإقليمي ثم مستوي المدينة فالأحياء بداخل المدن، فمن خلال هذه المستويات يتم تحديد الرؤي والأهداف والأدوار الوظيفية والإدارية للمدن وأحجامها السكانية وقاعدتها الاقتصادية بالإضافة إلى السياسات والآليات التنفيذية اللازمة لتحقيق تلك الرؤي والأهداف.

فمن خلال المستويات الاستراتيجية التخطيطية العليا يتم تحديد الرؤية المستقبلية للمدينة ودورها الوظيفي والإداري والقاعدة الاقتصادية وحجم ونوع كل من الأنشطة والخدمات اللازمة التي تدعم المدينة وتمكنها من أداء دورها المقترح بدقة وبكفاءة وكذلك يتم تحديد الحجم السكاني الأمثل اللازم لتحقيق تلك الرؤي والأهداف والأدوار. وبناء على ذلك يتم تحديد الاحتياجات من الأراضي ومن أحجام السكان ومن خلال ربطهما سويًا (السكان والأرض) نحصل على ما يعرف بالكثافة السكانية.

 ومما هو غني عن التعريف أنه كلما كانت الكثافات السكانية مرتفعة (أي أن عدد السكان المتواجد في مساحة محددة مرتفع) كلما كان تقديم الخدمات أقل وانتشار الأوبئة أسرع وكان هناك صعوبة أكبر في التحكم في سرعة الانتشار، هذا من جهة ومن جهة أخري فإن ارتفاع الكثافات السكانية يتطلب توفير خدمات ومرافق بتركز وتنوع أعلي وبالطبع يكون العكس صحيح في الحالتين.

أي أنه من خلال تحديد عنصرين أساسيين (السكان والأرض) ومن خلال التعامل معهما بفكر غير تقليدي يمكننا استخدام التخطيط كخط دفاع أول في مواجهة أي جائحة تواجه المدينة فكيف يكون ذلك؟

ونجد أن الاجابة بسيطة تتلخص في تبني فكر التخطيط التنموي المكاني عوضاُ عن التخطيط التنموي القطاعي التقليدي حيث يساهم فكر التخطيط التنموي المكاني في تحقيق الأهداف المنشود بصورة أكثر إيجابية وأضمن وأعلي كفاءة من تبني المفهوم التنموي التقليدي في تخطيط المدن. حيث يتيح هذا الفكر (التخطيط التنموي المكاني) للمدينة القدرة على تطوير خدماتها بصورة تحقق الرؤي المحددة لها من المستويات التخطيطية الأعلى.

هذا من جهة ومن جهة أخري فإننا نجد ضالتنا المنشودة في تقليل الكثافات السكانية وإعادة توطين الخدمات والمرافق.

فحين نعمل على أن يكون نمو المدينة وتوسعها أفقيًا (مع مراعاة الظروف الطوبوغرافية قدر الامكان) فإننا نهدف إلى تقليل الكثافات السكانية ومن خلال إعادة توطين الخدمات والمرافق خارج نطاق المناطق السكنية (وليس على أطراف المدن) وإيجاد مراكز خدمية مستقلة خارج المدن فأننا ندعم نجاح هدفنا. أضف إلى ذلك إعادة دراسة توطين الأنشطة الاقتصادية لتكون سياسة وأداة تؤدي إلى الحفاظ على الأحجام السكانية المستهدفة لكل مدينة من خلال التحكم في الحراك السكاني من وإلى المدينة.

فعلي سبيل المثال نجد أن مدينة الباحة في المملكة العربية السعودية من المدن السياحية الجميلة التي تتمتع بمقومات طبيعية (طبوغرافية ومناخية) تجعلها مركز جذب سياحي على المستوي المحلي والإقليمي إلا أن المدينة تخطيطيًا التنموي ليس لها القدرة علي جذب المستثمرين والعاملين في المجال السياحي بل تعد من المدن الطاردة للعمالة والمستثمرين، ويرجع ذلك لعدم وجود استراتيجية مكانية للمدينة تدعم دورها كمقصد سياحي فلا يوجد  ما يحفز المستثمرين علي انشاء الفنادق أو سياسة لتدعيم الخدمات والمرافق المساندة للنشاط السياحي فعلي سبيل المثال لا يوجد أي ميزة تفاضلية في تكلفة الخدمات والمرافق اللازمة لانعاش النشاط السياحي (كالكهرباء والمياه والهاتف...الخ).

وفي النهاية وحتى لا أكون قد أطلت عليكم وكما ترون فإن الامر جد بسيط يعتمد على إعادة توظيف الإمكانات والقدرات الكامنة بكل قطاع بالمدينة بالصورة الأمثل والاكفاء لدعم الدور المقترح على كافة المستويات التخطيطية وفي نفس الوقت الحفاظ على البيئة العمرانية بصفة عامة والصحية بصفة خاصة وتفعيل استخدام التخطيط كخط دفاع أول ضد أي جائحة صحية كانت أو اقتصادية أو عمرانية.