النجم الذي أفل


الأربعاء 2018-08-15

الحديث عن أصحاب المواهب يقصر دونه البيان، ولا يستوف حقه المقام ، وشيخنا ابو بكر الجزائري (رحمه الله) الذي تتلمذت على يديه متعلماً وجلست في حلقته مستمعاً كما حظيت بالاستفادة من دروسه الخاصة لبعض الفنون خارج دائرتي الوعظ والتفسير، كان أمة في رجل، إذ هو مدرسة متعددة الشعب والاتجاهات فهو عالم في التفسير، متكلم في العقائد والأديان، فقيه محقق، وواعظ تربوي لا يشق له غبار، ورجل إعلام عارف باتجاه الرأي وصناعته، يعيش هموم أمته، وأستاذ جامعي من الطراز الأول درّس في مرحلتي الجامعية والدراسات العليا وأشرف وناقش عشرات الرسائل العلمية للماجستير والدكتوراه، ورغم هذه التخصصات الموسوعية الهامة، فلم يخضها الشيخ هاوياً أو متطفلاً أو متكلفاً بقدر ما كان متمكناً من ناصيتها بعلمية وتحقيق، وقد سلمت أراؤه من الشذوذ والتطرف والغموض والجزئية، ولم يتورط في بناء المحاور الحزبية والتصنيف أو الوقوع في براثن التبديع والتكفير والمروق الفقهي أو توجيه طلابه نحو الصراع الإيديولوجي، وكان ينبو من كل فكر متطرف ويتبرأ منه، وكان (رحمه الله) محباً للبلد الذي هاجر إليه ويحتفظ بود بالغ  لولاة أمر هذه البلاد الذي ورّثه طلابه، وكان يدرك أهمية بلاد التوحيد مكانتها الاستراتيجية في العالم، وضرورة صيانتها والمحافظة عليها.

ومن جميل اللقاءات التي شهدتها مع الشيخ (رحمه الله) وكنت يومها طالباً في السنة الرابعة  بكلية الشريعة، وكنا معاشر الطلاب نتهيأ لأحد المحاضرات، إذ دخل علينا مراقب  الكلية وطلب منا على عجل الانتقال إلى فصل آخر لحضور درس التفسير، وأخبرنا بحضور الملك خالد (رحمه الله)، ومن طرائف الحدث في هذا الدرس العجيب، الذي لم يكن انتقائياً،  وانما كان ضمن سلسلة مقرر التفسير المنتظم، وهو تفسير قوله تعالى من سورة الحج (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) الآية,, فشرحها الشيخ برابطة جأش وفصاحة لسان وسلاسة أسلوب، حيث عقّب الملك خالد (رحمه الله) على شرح الشيخ بتأكيد مضامينه المنهجية في عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله وللدولة السعودية عموماً، وكان سماحة الشيخ ابن باز (رحمه الله) يعرف مكانته ومقامه، فقد صحبت الشيخ أبا بكر في عيد أضحى لزيارة الشيخ ابن باز بمخيمه بمنى، فلما دخل الشيخ أبو بكر مسجد المخيم وعلم به الشيخ ابن باز رحب به وأقعده على كرسيه ليواصل الدرس بعده، وانصرف سماحته إلى جناحه الخاص، فلما حان وقت الغداء، تقدم بلطف الشيخ ابراهيم الحصين (رحمه الله) ودعاه لمائدة الغداء المعدة لفضيلته، تلك الخاصية بقيت محفورة في نفوس العامة والخاصة في الداخل والخارج بالحب والتقدير للشيخ أبي بكر رحمه الله، 

والشيخ أبو بكر (رحمه الله) ينفرد بخصائص في أسلوبه الوعظي ومنهجيته في التأليف، فهو يملك رؤية دعوية شاملة، وقد خاطبته يوماً وقلت له : يا شيخ كل ما درسناه في علم الدعوة وأساليبها أراه في درسك مطبقاً، فما زاد (رحمه الله) على أن تبسم، فهو يستخدم الأسلوب الفطري والعاطفي ممزوجاً بالأسلوب العقلي والعلمي، ولم يعرف عنه تكلف البكاء أو الصراخ أو الإغراق في القصص مع براءته من العي والفأفأة والحصر، بأسلوب سهل فصيح، ونبرات صوته تأسر الأفئدة وينقلك بروحانيته الضافية الصادقة وعباراته الساحرة، في لحظات معدودات إلى الملأ الأعلى. 

والمتأمل في مؤلفاته (رحمه الله) يلحظ الجمع بين العلمية والموضوعية الشاملة، فاخرج كتاب (أيسر التفاسير وعلى حاشيته نهر الخير في أربع مجلدات، وكتابه (منهاج المسلم) في مجلد كبير حرص فيه على بيان منهجية شاملة لحياة المسلم في العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق، وكتابه في السيرة (هذا الحبيب يامحب) الذي تحدث فيه عن سيرة النبي صلى الله وسلم والوقوف على دروسها وعبرها، وله كتب ورسائل عديدة جمعت في مجموعة (رسائل الجزائري) وكانت موجهة لحل كل إشكال وقع في عصره أو معالجة قضية شائكة أو انحراف عارض، دون الدخول في مهاترات أو إثارة خلافات لا طائل تحتها، وكان (رحمه الله) يستقبل ضيوفه ويلاطفهم  في بيته أو في معتكفه في رمضان، ولم يقتصر على الدرس في المسجد النبوي الذي بدأ في أوائل السبعينات الهجرية حيث فسّر القرآن الكريم عدة مرات أو في الجامعة بل يزور القرى والمدن ويشد الرحال إلى الخارج للدعوة إلى الله، وادعو الباحثين في الدراسات العليا بالكتابة في جوانب حياة الشيخ رحمه الله العلمية والدعوية، والتي تشتد الحاجة إليها في عصر اختطفت فيه التيارات المتطرفة والإرهابية الشباب في طول البلاد الإسلامية وعرضها. 

رحم الله هذا العلم الشامخ والعالم الرباني والداعية الحكيم وحبر القران، شيخنا واستاذنا أبا بكر جابر الجزائري عليه شإبيب المغفرة وسحائب الرحمة والرضوان.